في ذكرى وفاته

قال عنه نجيب محفوظ في مجلة (المصور)- عدد أكتوبر 1989م: "هو منظّر الأدب الإسلامي الآن"؛ ذلك لأن مقولاته النقدية وأعماله الروائية والقصصية تشكل ملامح نظرية أدبية لها حجمها وشواهدها القوية، التي عززتها دراساته حول "آفاق الأدب الإسلامي"، و"الإسلامية والمذاهب الأدبية"، و"الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق ومدخل إلى الأدب الإسلامي، وتجربتي الذاتية في القصة الإسلامية".

ويقول د. حلمي القاعود عنه إنه كان فريدًا في فلك الفضاءات المكانية والمجالات الزمانية في أعماله عبر احترافه وحفاوته بالتحليل الدقيق والمنمنمات، واستطاع أن يملأ الساحة بالبديل الصحيح؛ حيث يعتبر أغزر الكُتَّاب إنتاجًا على الإطلاق، بينما يأتي "نجيب محفوظ" والسحار في المرتبة الثانية من حيث الكم!.

ويرى الدكتور جابر قميحة: أنه كان لديه إحساس عميق بتكثيف الجمال الفني المرتبط بالغموض أحيانًا في بعض أعماله، إلا أنه لا ينسى مسئوليته تجاه القارئ، وخوفه من أن يقع في براثن الفهم الخاطئ، فتراه في كل أعماله ينبض بخيوط الوعي المتيقظ، التي تجعل من كتاباته الروائية متعةً خاصةً وقتًا مكتملاً.

إنه الدكتور نجيب الكيلاني واحد من الذين برزت موهبته في فن الراوية، فطبعها بطابع الفهم الوسطي للإسلام؛ فكان أديبًا متميزًا وسفيرًا للإسلام بقلمه في أكثر بلدان العالم.

مولده

وُلد الدكتور نجيب عبد اللطيف إبراهيم الكيلاني في أول يونيو عام 1931م، الموافق المحرم من عام 1350هـ في قرية شرشابة التابعة لمركز زفتى بمحافظة الغربية بمصر، وكان أول مولود يولد لأبيه وأمه, وعلى غرار عادة أهل الريف في هذا الوقت التحق نجيب الكيلاني بكُتّاب القرية في سن الرابعة، حيث تعلَّم القراءة والكتابة والحساب وقدرًا من الأحاديث النبوية الشريفة وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقصص الأنبياء وقصص القرآن، وكانت أسرته تعمل بالزراعة، وكان منذ صغره يمارس العمل مع أبناء الأسرة في الحقول.

والتحق بالمدرسة الأولية، ثم مدرسة الإرسالية الأمريكية الابتدائية بقرية سنباط، ثم قضى الثانوية في مدينة طنطا، وأخيرًا التحق بكلية الطب بالقاهرة عام 1951م، وبعد تخرجه عمل بوظيفة (طبيب امتياز) في مستشفى (أم المصريين) بالجيزة عام (1961م), ثم طبيبًا ممارسًا بقريته (شرشابة)، ثم انتقل ليعمل في وزارة النقل والمواصلات, وتسلم عمله في القسم الطبي بهيئة السكك الحديدية, ثم سافر إلى دولة (الكويت) ليعمل طبيبًا هناك, وذلك في اليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس (1968م), ثم انتقل منها إلى دولة (الإمارات العربية), وقضى بها ما يقرب من (ستة عشر عامًا).

تزوَّج الكيلاني عام 1960م من الأديبة الإسلامية "كريمة شاهين" شقيقة الأديبة الإذاعية المصرية "نفيسة شاهين"، ورُزق بثلاثة ذكور هم: الدكتور جلال، والمهندس حسام، ومحمود المحامي، كما رُزق بأنثى واحدة هي د. عزة.

ولقد اتصف ببشاشة الوجه وروح الدعابة والتواضع الجم، وهو الخطيب المفوه صاحب الفكر المتفتح، يقول عنه أحد أبنائه: تشعر بأن خلقه القرآن، يرى الخالق في كل معاملاته، يتحامل على نفسه من أجل إسعاد أهله وذويه، ولم تكن طموحاته كبيرة في الدنيا؛ لأنه كان يحمل قوة إيمان عميقة وتواضعًا جمًّا.

ولقد تحمَّل الكيلاني آلام مرضه دون أن يبث همه وألمه لأحد حتى أقرب الناس إليه، فقد صبر على آلام الكبد الوبائي (C)، ثم آلام السرطان مستمسكًا بحبل الله وأنى له أن ييأس أو يخنع وهو الراضي بقضائه أيًّا كان إلا لله.

الكيلاني والإخوان

انضم نجيب الكيلاني لدعوة الإخوان في وقت مبكر من حياته؛ حيث أثرت في أفكاره, ومعتقداته, وزودته بالكثير من المعارف, والعلوم الدينية, والدنيوية, وكان لها أبلغ الأثر في تكوين عقليته السياسية.

وبدأ الكيلاني التعرف على جماعة الإخوان المسلمين في مدينة (زفتي), من خلال الاحتفال الذي أُقيم (بميت غمر) احتفالاً بمناسبة الهجرة النبوية, وذلك عام (1948م), وكان سبب التفافه حول هذه الجماعة؛ أنه وجد فيهم أسلوبًا جديدًا في الخطابة, والاحتفال بالمناسبات الدينية, فتفتح قلبه وعقله لما سمعه منهم, وكان مما لفت نظره الهتافات التي يرددونها؛ حيث كان من المألوف- في ذلك الوقت- أن أغلب الأحزاب يهتفون بحياة الزعماء, والأشخاص البارزين عندهم, ولكنه سمع في تلك الليلة هتافًا من نوع آخر سمع (الله اكبر ولله الحمد, الله غايتنا, الرسول زعيمنا, القرآن دستورنا, الجهاد سبيلنا, الموت في سبيل الله أسمى أمانينا).

وكانت هذه المحاضرات التي يعقدها (الإخوان المسلمون)- على حد قوله-: "أثرى وأقوى هذه المراكز في العطاء الفكري, والثقافي الموجه, فلقد كان الإخوان المسلمون يضعون برنامجًا حافلاً بالمحاضرات المختلفة, التي تضم الفكر, والأدب, والتاريخ, والسياسة, والاقتصاد, والتوعية الصحية، وكانوا يربطون بين هذه الموضوعات كلها برباط الإسلام, كما كانوا يقيمون المهرجانات الشعرية, والمسرح الإسلامي, والألعاب الرياضية".

حتى إنه تعرض للاعتقال أكثر من مرة، فبعد حادثة المنشية في 26 أكتوبر 1954م اعتقل عبد الناصر كثيرًا من الإخوان المسلمين، وقدمهم للمحاكمة وحكم عليهم بأحكام متفاوتة، وترك أسرهم دون عائل، فقام بعض الإخوة بجمع التبرعات من بعضهم وتقديمهم لأسر الإخوان المعتقلين في المحافظات ومساعدتهم في المعيشة، فعلم نظام عبد الناصر بذلك فقام باعتقال كل من ساعد هذه الأسر وقدمهم للمحاكمة تحت مسمى تنظيم التمويل، وكان نجيب الكيلاني أحد هؤلاء الذين اعتقلوا في يوم 7 من شهر أغسطس 1955م؛ حيث سيق إلى السجن الحربي وحكم عليه بالسجن لمدة عشرة أعوام إلا أنه حصل على عفو صحي وخرج بعد أن قضى بالسجن 40 شهرًا.

ويصور- في كتابه "لمحات من حياتي"- اعتقاله لحظة وصوله إلى قريته في سيارة أجرة من (زفتى)، وينقل إلى (التخشيبة) في قسم طنطا، ليحجز مع اللصوص والمجرمين، ثم ينقلونه في حراسة مشددة، إلى السجن الحربي بالعباسية أو البوابة السوداء؛ حيث حفلة الاستقبال!

الاستقبال الدموي بضرب بالسياط على الرءوس والوجوه، ثم الفصل الأخير عن المحاكمة، وهي محاكمة صورية، بتحقيقات سريعة تنتزع الاعترافات تحت التعذيب الوحشي، وعقدت المحاكمة برئاسة (اللواء صلاح حتاتة) بتهمة جمع تبرعات لمساعدة أسر المعتقلين في أغسطس 1955م، ويصور أهوال السجن الحربي الذي قضى فيه ما يقرب من ثلاثة أشهر، من أغسطس 1955 إلى أواخر أكتوبر من العام نفسه، ثم ترحيله إلى سجن القاهرة (قرة ميدان)، ومنه إلى سجن أسيوط، وفي هذا السجن أنشأ الكيلاني مجلة حائط؛ ليكتب فيها (الإخوان المسلمون) عما يعتلج صدورهم من أفكار, وآراء, وأحكام, وأطلق عليها مجلة (الشروق)، وكانت هذه المجلة بمثابة المتنفس الرئيس للإخوان المسلمين؛ حيث كتبوا فيها عن السياسة العالمية, والفكر الإسلامي, والآداب, والفنون المختلفة.

ومن المواقف يقول الدكتور رشاد البيومي إنه كان ونجيب الكيلاني في سجن أسيوط؛ حتى إنهما رفضا الدخول على مأمور السجن، بعد أن أمرهما بخلع حذائهما.

ثم أُعيد اعتقاله صبيحة اليوم السادس من شهر سبتمبر 1965م الموافق سنة 1385هـ, ولم يكن هذه المرة على ذمة قضية, بل مجرد معتقل لا تحقيق معه, وسيق إلى مركز شرطة (الخانكة), التابع لمحافظة (القليوبية)؛ لترحيله إلى سجن (أوردي أبي زعبل), ثم نُقِل منه في شهر نوفمبر 1965م إلى سجن (أبي زعبل الجديد), ثم انتقل منه إلى سجن (مزرعة طرة) 1966م, وأُفرج عنه في أحد أيام الثلث الأخير من شهر نوفمبر 1966م, حيث قضى (عامًا وبضعة أشهر) في هذه المرة.

في أحضان الأدب

ظهرت بوادر موهبته الشعرية في أواخر دراسته الابتدائية، وكانت أولى قصائده بين أيدينا التي نشرها عام 1948م عن فلسطين، منفعلاً بأحداث تلك الفترة، يقول: (عندما رأيت أفواج المتطوعين، تجوب شوارع طنطا وهم يرددون هتافاتهم قبل سفرهم للجهاد في أرض فلسطين، وعندما رأيت الصدام المروع بينهم وبين حكام تلك الفترة).

لم يعرف اليأس طريقًا لقلب الكيلاني، فاستغل فترة وجوده بالسجن؛ فنظم عددًا من القصائد حتى أصدر ديوانه الأول "أغاني الغرباء"، وفي السجن ترامى لمسامعه أنباء عن مسابقة تقيمها وزارة الثقافة والإرشاد (وزارة التربية حاليًّا)، فكتب روايته الأولى والأقرب لقلبه "الطريق الطويل"، والتي جعل أحداثها تدور في قرية مصرية، فيقول الكيلاني عنها: استطعت بحمد الله إنجاز الرواية في فترة لا تزيد عن ثلاثة أسابيع، ويقر الكيلاني بـ: كانت بدايتي الحقيقية مع القصة برواية "الطريق الطويل"، وذلك بدون معرفتي بالمذاهب الأدبية، وكانت الرواية تلك أولى البشائر وليس آخرها، فقد حصلت على الجائزة الأولى في المسابقة عام 1957م، ثم قُررت على طلبة الثانوية عام 1959م بعد أن قدَّمها الوزير "فتحي رضوان"، ومن الطريف أن إدارة السجن سمحت لنجيب بالخروج لبضع ساعات لتسلم جائزته ثم يعود أدراجه للسجن مرة أخرى.
 
ويقول الكيلاني عن بداياته مع الأدب الإسلامي: "على الرغم من أنني لم أعرف شيئًا عن الأدب الإسلامي أو المذاهب الأدبية، إلا أنك إذا رجعت إلى الإنتاج الأدبي الأول بالنسبة لي تجده بعيدًا عن الإسفاف والإباحية والعري، بل هو أدب نابع من فكر رجل قروي بسيط، متمسك بأعراف القرية وتقاليدها التي هي أقرب ما تكون إلى الإسلام الصحيح.. لهذا فقد كانت أعمالي الأولى تمثل الأدب الإسلامي، ولكن بدون قصد أو تعمد مني، وإنما مرت بتلقائية عفوية.. وبدأت أتجه إلى المذاهب، فقرأت فيها الكثير، وخاصة كتاب (الأدب ومذاهبه) للدكتور محمد مندور.. وبعدها بدأت تتضح الرؤية بالنسبة لي".

وكان من أهم إنجازاته: الدعوة إلى قيام أدب إسلامي منذ أواخر الخمسينيات، في إطار من الإدراك الواعي، والفهم المستنير لماهية هذا الأدب ورسالته وأهدافه البناءة، في خدمة الأمة الإسلامية والعالم أجمع، دون تعصب أو جمود، مع الحفاظ على القيم الجمالية والإنسانية الصحيحة.

يقول محمد شاهين: "جاءت مؤلّفاته التي بلغت نحو 70 كتابًا في غاية الإتقان الفني والأدبي، ووجدت هذه المؤلّفات قبولاً عند القارئ العربي، وترجمت إلى العديد من اللغات.

بدأ كتابة الرواية الإسلاميّة عندما ألف: (ليالي تركستان) و(عمالقة الشمال) و(عذراء جاكرتا) و(الظل الأسود)، ومزج التاريخ الإسلامي بالخيال الأدبي في رواية (عمر يظهر في القدس)، وظهر تأثّره بالثقافة الإسلاميّة في رواية (الطريق الطويل) و(أرض الأنبياء) و(نور الله) و(قاتل حمزة) و(نابليون في الأزهر) و(النداء الخالد) و(رحلة إلى الله) و(مواكب الأحرار) و(اليوم الموعود) و(أرض الأشواق) و(حارة اليهود) و(دم الفطير صهيون).

وبدا تأثره بالبيئة المصريّة في رواياته: (اعترافات عبد المتجلي) و(أقوال أبو الفتوح الشرقاوي) و(ملكة العنب) و(مملكة البلعوطي) و(أهل الحميديّة) و(الرجل الذي آمن)، وبرز في الرواية التاريخية من خلال: (على أسوار دمشق)، وعبّر عن معاناة أمّته خلال حكم الفرد في دواوينه الشعريّة: (أغاني الغرباء) و(عصر الشهداء) و(كيف ألقاك) و(نحو العلا)، وكتب في النقد والأدب الإسلامي: (الإسلاميّة والمذاهب الأدبيّة) و(آفاق الأدب الإسلامي) و(مدخل في الأدب الإسلامي) و(نظريّة الأدب الإسلامي وتصوّراته) و(المسرح الإسلامي)، وكتب في الثقافة الإسلاميّة: (الطريق إلى اتحاد إسلامي) و(الإسلام والقوى المضادّة) و(نحن والإسلام) و(تحت راية الإسلام) و(حول الدين والدولة) و(أعداء الإسلاميّة)، وكتب في الطب: (في رحاب الطب النبوي) و(الدواء سلاح ذو حدّين) و(الصوم والصحّة) و(الغذاء والصحة)، وله نحو عشر مجموعات قصصيّة منها: (موعدنا غدًا) و(العالم الضيّق) و(عند الرحيل) و(دموع الأمير) و(فارس هوازن) و(حكايات طبيب)، وفي التراجم كتب: (إقبال الشاعر الناثر)، وكتب سيرته الذاتية في (لمحات من حياتي)، كتب العريني في أدبه (الاتجاه الإسلامي في أعمال نجيب الكيلاني القصصيّة)".

ولقد حصل على عدد من الجوائز منها:

- جائزة وزارة التراجم والسير عن كتابه "إقبال الشاعر الثائر" عام 1957م.

- جائزة وزارة التربية والتعليم في مجال الدراسات النفسية والاجتماعية عن كتابه "المجتمع المريض".

- جائزة وزارة التربية والتعليم في مجال التراجم والسير عن كتاب "شوقي في ركاب الخالدين".

- جائزة وزارة التربية والتعليم في مجال الرواية عن "رواية في الظلام".

- جائزة مجلة الشبان المسلمين في مسابقة القصة القصيرة عام 1959م.

- جائزة الميدالية الذهبية المهداة من دكتور طه حسين.

- جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عن روايته "اليوم الموعود".

- جائزة مجمع اللغة العربية في أوائل السبعينيات عن رواية "قاتل حمزة".

- جائزة ميدالية الفيلسوف الشاعر محمد إقبال الذهبية مهداة من الرئيس الشهيد ضياء الحق الرئيس الباكستاني 1978م.

وترجمت الكثير من أعماله إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والأردية والفارسية والصينية والإندونيسية والإيطالية والسويدية.

وفاته

أُصيب بسرطان الكبد الذي لازمه لفترة، وكان طوال هذه الفترة صابرًا محتسبًا، وكان لا يشعر أحد ممن حوله بمعاناته، وكان أمله في الله قويًّا جدًّا حتى آخر لحظة، وقد كان مستعدًا للقاء الله راضيًا بقضائه، ذاكرًا لله في كل لحظة حتى آخر رمق في حياته، وكان يرتل القرآن في غيبوبته.

وفي يوم الإثنين 4 شوال 1415هـ الموافق 6/3/1995م، تُوفي بعد مرض عضال عانى منه أشد المعاناة، وكان في أثناء مرضه مثال المؤمن المحتسب، بعدما خلف تراثًا أدبيًّا ضخمًا.