بقلم: صادق أمين
يرحم الله أياما كان أبناء الإسلام والدعوة يتربون فيها على الصلوات في جماعة، وصلاة الفجر بالمساجد، وبر الوالدين، واحترام الكبير، والغيرة على الإسلام ودعوته، وقيام الليل، وصلاة الضحى، والوتر، وقراءة كتب الرقائق، والعيش مع إحياء علوم الدين في العبادات والعادات، والمنجيات والمهلكات، ومختصر منهاج القاصدين، وتزكية الأنفس.
فارق كبير بين أجيال وأجيال، أجيال تستقبل الحياة المجتمعية والدعوية بالحرص على حلقات القرآن الكريم، ومجالس الذكر، ومعايشة رياض الصالحين، ومعرفة فضائل الأعمال وتطبيقها، وصيام الإثنين والخميس، وزيارة المقابر، ومجالس العلم؛ حيث يوزع ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيادة المرضى، وزيارة العلماء، وتعهد الفقراء، وإكرام الأيتام، والانغماس في حب الخير، كما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم: "لن يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة".
فارق كبير بين هذه الأجيال، وأجيال فرض عليها الواقع أن يكون أول احتكاحها بالمجتمع والدعوة مجرد التراشق اللفظي مع مؤيدي الباطل والشعور بالاصطفاء والأفضلية لمجرد اطلاعه على حيل القوم المجرمين والاطلاع على وسائل الغزو الفكري، والاتجاهات الفكرية المعاصرة، والماسونية والصهونية والعلمانية والعمل السياسي, دون أن يكون له رصيد من تربية الذات والقيام بشأنها والعمل على تحصينها من وساوس النفس ودسائس الشيطان ومعالجة أمراض قلبه.
نحن هنا لا ننكر استيعاب أجيال الدعوة لطبيعة الصراع ولا الإنكار عليهم معايشة الواقع من حيث هو واقع، فهذه لوازم لا بد منها، فقط ما ننبه إليه هو أن يكون هذا هو المعلم الأساسي للشخصية المسلمة في التشكيل والتوجيه والاهتمام.
محروم من لم يحفظ أذكار الصباح والمساء ويرددها بقلبه ولسانه معًا..
محروم من حرم قلبه ولسانه من أوراد اليوم والليلة وحزبه من القرآن الكريم.
محروم من أراد إحياء المجتمع وأهمل نفسه حتى أماتها بيده..
محروم من لا يعرف قراءة القرآن وأكثر حرمانا منه الذي يعرف كيف يقرؤه ثم هو يهجره ولا يتعهده.
في دار الأرقم بن أبي الأرقم وبدايات اللحاق بالدين الجديد وركب الدعوة كان الصحابة يتلقون التعاليم، ويعايشون هدي الوحي، ويتابعون جديد أحداث الدعوة الوليدة، في حب وشغف، وسرية وخوف من أعين المشركين، وكلهم إقبال على الله، وسعادة بالتمسك بهذا النور الذي أضاء قلوبهم وأنار حياتهم.
عكفوا على القليل الذي نزل من القرآن الكريم في بداية المرحلة المكية يقرءون ويحفظون ويتدبرون ويعملون بما علموا، حتى قال قائلهم: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل معا.
وكان القرآن الكريم هو وحده مصدر التلقي، وعلى هديه ومأدبته كان التكوين والتشكيل والصياغة الإسلامية لجيل الصحابة، الجيل القرآني الفريد، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي كتاب أصبته من بعض أهل الكتاب، فقال: "والذي نفس محمد بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني".
كما كان سلوك النبى الأمين صلى الله عليه وسلم هو الموجه والمؤثر العملي في التربية والأخلاق، ولم تكن هناك أية مؤثرات أخرى شوشت صناعة الرجال الذين شهد لهم العالم بأنهم نماذج فذة، لم تر البشرية مثلها.
اختلطت مصادر التلقي اليوم، واضطربت موازين الاهتمام، لدى أبناء الدعوة المعاصرين، وشكل القرآن الكريم والسنة النبوية قدرا ضئيلا في صدارة التوجيه، وتشكلت أجيال صنعتها ثقافة الهواتف الذكية، وصاغتها حوارات الفيس بوك والتويتر، وسائر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أهدرت في كثير من تجاربها الأوقات، وهدمت في كثير من مادتها القيم، وخرَّجت متدربين في الجدل، وخبراء في السفسطائية، ووفرت مادة خصبة لمستخدميها من مفردات "البجاحة" والابتذال، وحدة الألسن، وغلظة المشاعر، وفي الوقت ذاته أثمرت خواء في النفوس، وجدبا في العواطف، وفقرا في الأحاسيس، إلا من تعامل معها بقدرها، ونجا من مثالبها.
هذه الظواهر السلبية التي ظهرت في حياة الدعاة وأبناء الدعوة جراء ضعف الأخذ عن مصدر التلقي الأول القرآن الكريم، وجراء تراجع السنة عن منصة التوجيه في حياتنا ومجتمعاتنا، تقتضي التوازن في مصادر التلقي؛ بحيث لا تطغى النوافل على الفرائض، ولا تزاحم الفضائل الفرائض، ولا يقدم التابع على المتبوع، ولا نبرز الفروع ونخفي الأصول.
كما تقتضي التوازن بين العلم والعمل، والتوازن بين الاطلاع والإفادة، كما تستلزم التخفف من كل ما يضيع الأوقات، ويعمل على اضطراب المفاهيم، ويشوش وضوح الأفكار، ويضعف المشاعر، ويجمد العواطف، ويخلق ثقافة الجدل لا العمل.
كما تقتضي العودة إلى الينابيع الصافية لنغرف منها بالقدر الذي يشبع نهمنا، ويروي ظمأنا، وينقي الشوائب من قلوبنا، ويصفي الدخيل في ثقافتنا.
فلنقبل، ولنعلم أن من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة، ومن لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف، كما قال بعضهم.