عندما يسمع المسلم كلمة "الجنة" تجول بخاطره صورتها، من قصور وأنهار ورياحين وحور عين، فيها النعيم المقيم الذي لا يزول، وسعادة تدوم، لا تكدرها منغصات ولا أوجاع ولا أمراض، حياة صافية لا يشوبها قلق ولا اضطراب، حياة آمنة لا يشوبها خوفٌ ولا وجل، عيشة راضية كما سمَّاها المولى عز وجل في كتابه لا يشوبها سخط ولا غضب، لا تعب فيها ولا نصب، لا موت فيها ولا هرم، شباب دائم، وحيوية متجددة، ولذَّات غير متناهية..
إنها الجنة التي حولها دندن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.. إنها الجنة التي اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة.. إنها الجنة التي قال عنها الصحابي الشهيد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مؤتة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
هذه هي الجنة التي أعدها الله عز وجل لعباده المتقين، وفي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتتزين لعبادِ الله الصائمين وتنادي ربها: "اللهم اجعل لي في هذا الشهر من عبادك سكانًا".
لذّات الدنيا ناقصة
إن كل إنسان يتمنَّى أن يعيش في دنياه هادئ البال، مستقرَّ الوجدان، عنده من المال ما يكفيه، ومن الأولاد ما يُضفي على دنياه سعادةً وبهجة، معافًى من الأمراض، سليمًا من العيوب والآفات، لا أحدَ يعكِّر حياته، ولا شيءَ ينغِّص عيشه، لكن هيهات هيهات..!!
إن كل هذا لا يكون في الدنيا، فالدنيا غرَّارة خداعة، تعطي ثم لا تلبث أن تمنع، لذاتها ناقصة، فإذا كان الإنسان سليمًا فلا يلبث أن يهاجمه المرض، وإذا كان غنيًّا فلا يلبث أن يهاجمه الفقر، وإذا كان عنده أولاد لا يلبث أن يخطف الموت أحد أبنائه، كلها فتن وابتلاءات، وأيام السعادة فيها قليلة وغير صافية، وهي كما قال الشاعر:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يُغر بطيب العيش إنسان
وكما قال غيره:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانَ وعناهم من أمرِه ما عنانَا
وتولوا بغصةٍ كُلُّهم منه وإنْ سرَّ بعضهم أحيانا
ربما تحسن الصنيع لياليه ولكن تكدر الإحسانا
نعم.. هكذا حال الدنيا، لا يستقيم فيها عيشٌ، ولا تصفو فيها لذة، ولا توجد فيها راحة، وقد صدق الله إذ يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾ (البلد) أي في تعب ومشقة.. وليس المقصود من ذلك ترك الدنيا والتفرُّغ للعبادة في المسجد، وإنما المقصود هو ألا تخدعَنا الدنيا، فلا ننجرّ وراءها وننسَ الآخرة، وألا نقعَ في شهواتها ولذاتها وننسى لذة الجنة، وأن نجعلها مزرعةً للآخرة، نزرع فيها كل خير حتى نحصد الخير بإذن الله.
صفقة رابحة
رُوي عن الصديق أبي بكر عندما نزل قول الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة) بكى وقال: "سبحان الله!! أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها، ثم يشتريها منا بالجنة..؟! والله لقد ربح البيع".
صدقت أيها الصدّيق؛ فالله عز وجل هو الذي خلق أنفسنا، وهو الذي رزقنا الأموال، ويريد منا أن نبذل أنفسنا وأموالنا له مقابل أن يعطينا جنةً عرضها السموات والأرض، خالدين فيه أبدًا، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والله لقد ربح البيع، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَن خاف أدلج، ومَن أدلج بلغ المنزل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعةَ الله الجنة".
والعجب كل العجب أن الذي يبخل بماله ونفسه هو الخاسر ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد)؛ لأن النفس لها أجل وستذهب إلى صاحبها، والمال سيذهب إلى الورثة، ويبقى الحساب، وقد صدق الشاعر إذ يقول:
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودارنا لخراب البوم نبنيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
تجني الثمار غدًا في دار مكرمة لا منَّ فيها ولا التكدير يأتيها
فيها نعيم مقيمٌ دائمًا أبدًا بلا انقطاع ولا من يدانيها
الأذن والعين لم تسمع ولم تره ولم يجر في قلوب الخلق ما فيها
فهل نعقد الصفقة مع الله ونربح الجنة أم نتراجع ونتخاذل؟ إن قبلنا الصفقة فعلينا بقراءة الآية التي وردت بعد آية الصفقة؛ حيث توضح صفات مَن يريد أن يعقد هذه الصفقة مع الله.. ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112)﴾ (التوبة).
التائبون.. التوبة جاءت في مقدمة شروط الصفقة لأهميتها، وقد وجَّه الله تعالى أمره للمؤمنين جميعًا أن يتوبوا واعتبرها طريقًا للفلاح: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: من الآية 31) ورسولنا الحبيب يوصينا بالتوبة، فيقول: "أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره في اليوم مائة مرة"، والتوبة تكون من الكبائر والصغائر، وكذلك من التقصير في حق الله، ومن الغفلة.
ولا بد أن نحترس من المعاصي كلها، كبيرها وصغيرها؛ لأن تعوُّد النفس على التساهل مع الصغائر من شأنه أن يستدرجها للوقوع في الكبائر.. وصدق الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- إذْ يقول: "إياكم ومحقرات الذنوب.. وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".
والتوبة الصادقة تجبُّ ما قبلها من الذنوب، وكلنا ذوو خطأ؛ ولذلك فعلى كل فردٍ منا أن يجدد توبته مع الله يوميًّا، ولا ينام حتى يُحاسب نفسه ويتوب توبةً نصوحًا، ويجدد العزم على عدم العودة إلى ذنب اقترفه.
العابدون.. عندما يُذكر لفظ العبادة يتبادر إلى الأذهان الصلاة والزكاة والصوم والحج، مع أن مفهوم العبادة أشمل من ذلك؛ فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وبالتالي فكل قول وكل فعل يحبه الله ويرضاه هو العبادة، ومن هنا نلاحظ أن حياة المسلم كلها، من حركات وسكنات.. يجب أن تكون عبادة لله، وقد صدق الله عز وجل إذْ يقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام).
الحامدون.. صفة "الحمد" صفة ملازمة للمؤمن في حياته كلها، فالحياة عبارة عن مسرَّات وأحزان، سرَّاء وضرَّاء، وبين هذه وتلك يتقلَّب الإنسان، فيجب على المسلم أن يحمد الله على السراء والضراء، ويرضى بكل ما يأتي به الله له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن".
وعلى المؤمن أن يستشعر نعم الله عليه، فهي كثيرة ولا تحصى.. ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ (النحل: من الآية 18).. وأعظم نعمة هي نعمة الهداية إلى الإيمان، ويكون رد الفضل وشكر النعمة بتوظيف كل ذلك فيما يرضي المنعم عز وجل؛ امتثالاً لأمره تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7) ويقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها".
السائحون.. أي الصائمون، والصيام من أفضل الأعمال، وله أجر عظيم لا يعلمه إلا الله، فالصيام يُصفِّي النفس من شوائب الشهوات، ويرقِّق القلب ويجلب تقوى الله عز وجل، فما أجمل أن يكون لك- أخي المسلم- وردٌ في صيام التطوع، كصيام الإثنين والخميس أو ثلاثة أيام من كل شهر، ولتتذكَّر قول الحبيب المصطفى: "صمْ يومًا شديدَ الحر ليوم النشور"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن صام يومًا في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا".
الراكعون الساجدون.. الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة، وكأن الصلاة صفة ملازمة لهم، وكأنَّ الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم، والصلاة صلة بين العبد وربه، تُريح النفوس وتُذهب الهموم، وبها يركن المؤمن إلى ملك الملوك فيستمد منه العون والقوة؛ ولذلك كان- صلى الله عليه وسلم- يقول عن الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"، وهؤلاء لا يكتفون بالصلوات الخمس المكتوبات وإنما يحافطون عليها وعلى السنن الرواتب، فإذا جنَّ الليل وقفوا بين يدي مولاهم ينهلون من قيام الليل، وقد وصفهم الله في كتابه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾ (السجدة).
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.. وهنا يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة، فكل ما تقدم من توبة وعبادة- صيام وصلاة- إصلاح للذات، ومع إصلاح الذات لا بد من السعي إلى إصلاح العباد، ومن هنا تأتي الخيرية للأمة الإسلامية؛ حيث يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ (آل عمران: من الآية 110).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف رباني قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران)، ولقد شدد رسولنا- صلى الله عليه وسلم- على ضرورة القيام بهذا الواجب الذي يُعتبر صمامَ أمانِ المجتمعات؛ فقال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".
والحافظون لحدود الله.. قال القرطبي في تفسيره: "أَيْ الْقَائِمُونَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالْمُنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ"، فهم قائمون على تنفيذ أوامر الله في أنفسهم ومجتمعهم، فيجب على المؤمن أن يحفظ حدود الله في نفسه وبيئته ما أمكنه ذلك، وعليه أن يبادر بالعمل لما يحقق حفظ حدود الله بالكلية؛ فحفظ حدود الله يرد عنها العادين والمضيِّعين، ويصونها من التهجُّم والانتهاك، ويصون المجتمع المسلم من الانحراف والتمزُّق والتشرُّد، فيبقى سليمًا معافًى من الانحدار الخلقي والحضاري.
هذه هي الصفقة، وهذه هي شروطها، فهلاَّ بايعنا الله وربحنا هذه الصفقة، فهي صفقةٌ رابحةٌ، لا خسارة فيها؛ لأنها صفقة مع أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، وقد وعدنا الله بالجنة، والله لا يخلف الميعاد؛ فعن أسامةَ بن زيد- رضي الله عنه- أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإنَّ الجنةَ لا خطرَ لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتز، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطردٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وحللٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية، قالوا: يا رسول الله، نحن المشمرون لها، قال: قولوا: إن شاء الله. فقال القوم: إن شاء الله".. ألا هل من مشمِّرٍ للجنة؟!