عن طَلحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ أَنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأى الهِلال قَال: "اللهُمَّ أَهِّلهُ عَليْنَا بِالأمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ، رَبِّى وَرَبُّكَ اللهُ" (رواه ابن حبان وصححه).

إنه لقاء الحبيب.. انتظرناه، واستعددنا لاستقباله..

والتقينا.. وعندما يلتقي الحبيب بحبيبه تتداعى في ذاكرته فضائله.

شهر الجنة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَال: قَال رَسُول اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ أَوَّل ليْلةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَت الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلمْ يُغْلقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِي الخَيْرِ أَقْبِل، وَيَا بَاغِي الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ، وَذَلكَ كُل ليْلةٍ" (أخرجه الإمام الترمذي".

وكأن الله تعالى يقول لعبيده: إن التبرير الأساسي لديكم إذا انفلتم من الطاعة هو إغواء الشياطين، وها أنا أصفد الشياطين وأسجنهم في رمضان، فلا عذر لكم بعد ذلك، ولم يبق إلا أنفسكم فجاهدوها، ﴿ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلحَ مَن زَكَّاهَا، وقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس من 7 :10).

ولقد استوعب "الحسن البصري" هذا المعنى فقال: إن الله تعالى جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون.. ﴿وسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133).

شهر القرآن وليلة القدر

وعندما ذكر الله تعالى شهر رمضان في القرآن قرنه بنـزول كلامه الحبيب: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنـزل فِيهِ القُرْآنُ هُدًى للنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى والفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 185)، ويبين الله تعالى أنه أنـزل القرآن في ليلة مباركة: ﴿إنَّا أَنـزلنَاهُ في ليْلةٍ مُّبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ (الدخان:3)، وحدد تعالى هذه الليلة المباركة على أنها ليلة القدر: ﴿إنَّا أَنـزلنَاهُ في ليْلةِ القَدْرِ﴾ (القدر:1)، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النبي- صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ قَامَ ليْلةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (أخرجه البخاري)، وعَنْه أيضًا عَن النبي- صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (أخرجه البخاري).

هدايا رمضان

يقول الإمام المراغي: في شهر رمضان نعمتان: نعمة القرآن ونعمة الصوم، نعمة العلم والنور والهداية في القرآن، ونعمة الوسيلة لتقبل هذا الفيض في الصوم.

هكذا تأملنا حُسْن الحبيب وفضائله عند اللقاء، وعند اللقاء يهيج القلب بالفرحة فيترجمها اللسان كلامًا عذبًا جميلاً، ولذلك فقد هام الشعراء في ذلك الشهر حبًّا فترجموه شعرًا جميلاً.

يقول أحدهم:
شهرٌ عليه من الإجلال روعته       له بكل بقاع الأرض تبجيلُ
شهر السعادة فيه النسك منطبع      على القلوب وفيه العفو مكفولُ

ويقول آخر:
جاء رمضان فجاء الخير أجمعه      ترتيلُ ذكر وتحميدٌ وتسبيحُ
فالنفس تدأب في قولٍ وفي عملٍ     صومُ النهار وبالليل التراويحُ

ويقول ثالث:
أتى رمضان مزرعة العباد         لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً             وزادك فاتخذه إلى المعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها       تأوه نادمًا يوم الحصاد

شوق القلوب

هكذا تذكَّرنا الحبيب، وهكذا انتظرناه.

لا زلت أذكرك..

أذكرك بصيامك، وتهجدك، وتراويحك، واعتكافك.

أذكرك بقرآنك، وذِكْرك، ودعائك.

أذكرك بعطائك، وبركتك، وجودك.

أذكرك برحمة ربنا فيك، وعفوه ومغفرته.

نعم لا زلنا نذكره.

ونذكره أيضًا بضعفنا، وتقصيرنا معه، والخير الكثير الذي فاتنا فيه.

فكم من خير في صيام ضاع مع غيبة أو نميمة أو نظرة خائنة.

وكم من خير في قيام، ضاع مع نوم و(فيلم ومسرحية وفزورة).

وكم من خير في قرآن ضاع مع تكبُّر أن نجلس في حلقة تعلم وذِكْر.

وخير، وخير، وخير..

نعم لا زلنا نذكر ذلك كله، ونذكر أيضًا دموعنا عند وداعه في العام الماضي، ونحن نقسم بين يدى الله ونعاهده على أنه في رمضان القادم سوف نكون أحسن حالاً، وسوف نعوض ما فاتنا، وقد مرت الأيام والشهور، وأخذنا ندعو: اللهم بلغنا رمضان.

وها هو رمضان، أيدينا في يده، فماذا نحن فاعلون؟