يحدثنا القرآن الكريم في إشارةٍ مهمة إلى بعض معاني العيد، وأنه مبعثٌ للسرور والفرح والاحتفاء، وذلك في الحوارِ بين سيدنا عيسى عليه السلام وأصحابه من الحواريين عن المائدة التي منحها الله لهم؛ ليسعدوا بها ويفرَحوا، وتكونَ لهم رخاءً ورزقًا حسنًا وتكرمةً من الله لهم، ولتكون تذكارًا لهم ولأجيالهم عبر العصور والأزمان؛ لذلك طلبوا من الله تبارك وتعالى أن ينزِّلَ عليهم مائدةً من السماء.. قال جلَّ في علاه ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)﴾ (المائدة).

لهو مباح

فعندما يرى الإسلام أن العيد مرح ولهو مباح فهذا إنما يكون في نطاق ما أحله الله، فهو لهوٌ للصغار وبهجةٌ للكبار بلهوِ الصغار، وفي الأعياد يكون اللهوُ المباحُ الذي فيه إسعاد للعبد وإرضاءٌ للرب، فلا يجوز للمسلم أن يفرح ويمرح بشرب المسكرات أو لعب القمار كما يفعل البعض.. يقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾ (المائدة).

وقد أحلَّ الله لنا اللهوَ المباحَ كما ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قوله لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: "دعهما يا أبا بكر؛ فإنَّ لكل قوم عيدًا وإن هذا عيدنا".. فأعيادنا أعياد طاعة لا معصية، أعياد شكر لله على نعمة الإسلام لا أعياد كفر، أعياد مرح وفرح ولهو مباح لا أعياد مجون وفجور وعصيان.. يقول الحسن البصري رحمه الله: "كل يوم لا يُعصَى اللهُ فيه فهو عيدٌ، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعةِ مولاه وذكرِه وشكرِه فهو له عيدٌ".

لا تقتير ولا إسراف

والعيد في الإسلام يوم إنفاقٍ وتجمُّل وتزيُّن؛ حيث يرتدي الناس كل جديد وكل جميل، فيلبسون أفضل ما لديهم من ملابس، ويتطيَّبون بأجمل ما لديهم من طيب في هذا اليوم المبارك؛ احتفاءً واحتفالاً بهذا اليوم المبارك، وأيضًا يتناول الناس أطيب الطعام وأفضله..  يقول تبارك وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: آية 31،32).

أحل الله تبارك وتعالى الطيبات من الطعام واللباس في ذلك اليوم، ولكنه تبارك وتعالى وضع ضوابط لذلك، وإن كان من معاني ومظاهر العيد الزيادة في الإنفاق على الطعام والشراب وغيرها من الملذات فقد أباح لنا تبارك وتعالى ذلك، لكن بضوابط وضعها الإسلام لهذه الأمة، فلا تقتير ولا إسراف ولا تبذير، فالمال مال الله، والإنسان إنما هو مستخلَف فيه، سيحاسَب على ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه!!

ومن هنا يتجلَّى المعنَى الحقيقي للعيد، وهو شكر الله على ما أنعم به علينا من نعم، وإذا نظرنا إلى قيد عدم الإسراف في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ لوجدنا:

1- فيه رفع للمشقة والكلفة عن الأُسَر محدودة الدخل.. فإذا دقَّقنا النظر وأمعنَّا الفكر في الحكمة من قوله تعالى ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ لو تأملنا في الحكمة من هذا القيد لوجدناه إنما هو رفعٌ للمشقة والكلفة عن أولئك الذين ليس لهم دخول تتناسب ومظاهر الإسراف في الأعياد، فيسود الأسرة المسلمة الاستقرارُ والقناعةُ والرضا.

2- فيه دفع للحسد والتباغض.. أيضًا لو أمعنَّا النظر لوجدنا في هذا القيد حكمةً أخرى وفائدةً عظيمةً للمجتمع، وهي دفع الحسد، حسد من لا يملك لمن يملك، حسد غير القادر على الإنفاق ببزخ لذلك القادر على الإسراف المسرِف المبذِّر، الذي ينفق بلا حساب، والذي لا ينظر إلى ظروف الآخرين من حوله من المعدمين والمحتاجين.

3- تأسيس وتأصيل لمبدأ التكافل بين فئات المجتمع.. أيضًا لو أمعنَّا النظرَ في هذا القيد لوجدنا فيه حكمةً أخرى، فهو دعامةٌ من دعائم إقامة المجتمع العادل الذي ينظر إلى فئات المجتمع فيه بمنظورٍ واحدٍ، فيجعل للمسكين حقًّا في عنقِ الغنيِّ، ويتحقق التكافل الاجتماعي في أسمى صورِه، ولربما دفع هذا القيد أولئك القادرين- الذين إذا ما التزموا بهذا الضابط فلم يسرفوا ولم يقتروا- أن يبذلوا بعض أموالهم في أوجه الخير والنفع في المجتمع، وذلك من فوائض أموالهم فيسدُّوا حاجةَ المحتاجين والفقراء في المجتمع، فيكون عدم الإسراف دافعًا إلى بذل المال في أوجه الخير التي تعمُّ المجتمع وتساهم في استقرار البلاد وراحة العباد، في زمن تزايدت فيه أعباء وكلفة المعيشة، وانتشر الفقر.

4- حصن للمسلم من فتنة المال.. بالتأكيد فالمال وزيادته أحد عوامل اغترار الإنسان، والمال قد يقود الإنسان إلى الكبر والتعالي على الآخرين، فيصبح المال فنتةً ونقمةً عليه، نعوذ بالله من فتنة المال.

والمال أحد وسائل التفاخر والتباهي والخيلاء، ينظر إليه الضعيف على أنه وسيلةُ قوةٍ، وينظر إليه الوضيع على أنه وسيلة رِفعة وسموّ، أما المسلم التقي النقي فينظر إليه على أنه مالُ الله وهو مستخلفٌ فيه، يلتزم في اكتسابه بضوابط في تحرِّي مصدر اكتسابه، وفي إنفاقه بضوابط أن ينفقه في أوجه الحلال، ويؤدي حق الله فيه وحق العباد من الزكاة والإنفاق وخلافه.

ومظهر الإسراف في الإنفاق هو وسيلة من وسائل تحقيق الغايات المذمومة التي ذكرناها في البشر ضعاف النفس الذين يتخذون الإسراف في الإنفاق وسيلةً للتباهي والتفاخر والاغترار بالمال، وهؤلاء تجدهم ينفقون المال فيما حرَّم الله بالسهر والمجون وخلافه.

فإذا ما التزم المسلم بضابط عدم الإسراف في الإنفاق فإنه يخرج بنفسه من دائرة استخدام ماله في تحقيق مآرب ومصالح دنيوية، ويشكر الله على ما أعطاه من مال فينفقه في أوجهه وفي موضعه بلا تقتير أو إسراف؛ مما يعود بالنفع على الصالح العام وصالح الفرد نفسه في الدنيا والآخرة.

هذه بعض الضوابط التي وضعها الإسلام لاستقامة الأمة، وتهذيب النفس البشرية، وتربيتها على الوسطية، وفي ذلك الكثير من الخير للأمة، لو طُبِّقت هذه القيم والتُزِم بها لعمَّ الرخاء وزاد الرزق وما وجدنا محتاج.