بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

إخواني.. وأخواتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عام هجري جديد أهلَّ علينا، مناديا على الخلائق بنفس النداء الذي يتردد كل صباح: "يا ابن آدم: أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني، فإني لن أعود إلى يوم القيامة".

وعام مضى، طوى صفحاته وأغلق سجلاته بحلوها ومرها، لينتظرنا يوم القيامة.. "يوم يقوم الناس لرب العالمين"، دون أن يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فــ"كل نفس بما كسبت رهينة".

عام هجري جديد؛ يُذكر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمرور ألف وأربعمائة وواحد وأربعين عامًا على هجرة نبيهم وصحبه الكرام من مكة - أحب البقاع إليهم – تاركين الديار والأهل والأموال، متوجهين إلى المدينة المنورة، امتثالًا لأمر ربهم، ونُصرةً للحق، والتماسًا للحرية والحياة الكريمة في ظلال الوحي الإلهي والتوجيه النبوي.

عام هجري جديد؛ يقول لأمة الإسلام ذات المليار والسبعمائة مليون مسلم: اختاركم الله لتكونوا الأمة الوسط، شهيدة على الأمم بكل ما تعنيه هذه الشهادة من تضحيات جسام، بدأت منذ اليوم الأول لدعوة الإسلام، لينتشر نور الحق عبر خمسة عشر قرنًا من الزمان في كل قارات الدنيا، ونداء الوحي يتردد صداه في الأرجاء:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

عام هجري جديد؛ نستمطر فيه رحمات الله للشهداء والمعتقلين والمطاردين والمصابين والمهاجرين وذويهم الأطهار الكرام، نقف على أعتاب ربنا راجين مثوبته ورحمته ونصره لعباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، إنه نعم المولى ونعم النصير.

رحل عنا عام مختتمًا بذي الحجة "الشهر الحرام" ليبدأ عام جديد مُبتدءًا بالمحرم "الشهر الحرام، تذكيرًا بالحرمات والحقوق في الأموال والدماء والأعراض، وما أحل الله لعباده وما حرم عليهم، وتصديقًا لقول ربنا: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة:3).

أيها الإخوة الأحباب... أيها المسلمون

إن الهجرة النبوية هي الحدث التاريخي الأبرز فى تاريخ الأمة الأسلامية، الذي شكّل نقطة تحول فى مسيرة الدعوة الإسلامية، ووضع اللبنات الأولى لدولة الإسلام فى المدينة المنورة.

والهجرة نقطة فارقة فى تاريخ الأمة الإسلامية، وحد فاصل بين مرحلتين: المكية والمدنية، وبما حملته من معاني الإخاء والتضحية والصبر والنصر، والتخطيط والتوكُّل.

وأجدني في أجواء هذه الذكرى أستضيء بتلك الكلمات المضيئة للإمام الشهيد حسن البنا وهو يرسم خريطة الاستفادة من ذلك الحدث الجلل بقوله يرحمه الله: "قلت للرجل الواقف على باب العام الجديد: أعطني نورًا أستضيء به في هذا الغيب المجهول فإني حائر، فقال لي: ضع يدك في يد الله فإنه سيهديك سواء السبيل".

وحدث الهجرة كله دروس وعبر أقف أمام أهمها للعظة والاستفادة:

أهمية الوقت

لقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطته للهجرة، وجعل عامل الوقت عنصرًا مهما فى تنفيذها، فالوقت هو الحياة، وعندما يمضي عام من حياة المسلم ويستقبل عامًا جديدا؛ ينبغي عليه الوقوف مع نفسه محاسبًا إياها على ما مضى، بالتوبة النصوح والندم على الأخطاء، واستدراك ما فات والعزم على تقويم الاعوجاج، والعمل الصالح فيما هو آت، مُتأسيًا بقول الفاروق عمر رضي الله عنه:(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).

ومتذكرًا مشهد وقوفه بين يدي الله عزوجل وهو يردد قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ" (الحشر:18،19).

التضحية

والتضحية بالنفس والنفيس، وبكل ما يملك صاحب الدعوة من أجل دينه ودعوته، كما فعل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، الذي كان يحرص على التضحية بنفسه من أجل صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، ويدخل الغار أولًا، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشية عليه صلى الله عليه وسلم من أي أذى.

وتضحية الفدائي الفتى علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، بالنوم فى فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، ضاربًا المثل بصدق التضحية في سبيل الدعوة: "ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)" (العنكبوت).

التذكير بالغاية العظيمة

لكل من هتف: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا. بيّن الله تعالى هذه الغاية من خلق الناس في قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ" (البقرة 143).. طلب للأمة الإسلامية وتكليف لها، لتحمل الرسالة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سائر الناس، وقد حَمَّلها إياها بعد أن بلّغ النبي صلي الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده.

الصبر.. من دروس الهجرة

جاءت الهجرة لتبين لنا بكل جلاء ووضوح أن الدنيا ليست دار مستقر لأحد، وهى للمسلم كبيت له بابان دخل من باب وسيخرج من الثاني حينما يأتى القدر المحتوم. فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: أَخَذ رسولُ اللَّه ﷺ بِمَنْكِبِي فقال: كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ.

ولقد كان من أسباب الهجرة اشتداد الأذى بالداعية وبالمؤمنين، وضاقت مكة بالدعوة، فكان لا بد من إيجاد موطن يبلغون فيه الدعوة، فكانت يثرب.

فالمسلم يصبر، وعليه الاستمرار في مواجهة أهل الباطل قدر طاقته ووسعه، ولكن حينما تسد أمامه كافة السبل، لكي يصدع بكلمة الحق، فليس أمامه من سبيل سوى الهجرة إلى مكان آمن يستطيع فيه تبليغ دعوة الله.

ولم تكن الهجرة نزهةً؛ ولكنَّها مغادرةُ الأرض، والأهل، والوطن والتَّخلِّي عن كلِّ ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهدٍ كبيرٍ، حتَّى وصل المهاجرون إلى قناعةٍ كاملةٍ بهذه الهجرة. قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: 10).

الثقة الكاملة بالله

فى الهجرة اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كلِّ الأسباب، ولكنه لم يركن إليها مطلقًا؛ وإنَّما كان كاملَ الثِّقة بالله، دائم الدُّعاء: "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا" (الإسراء: 80).

وقد تختلف طرق الأعداء فى مجابهة الدعوة والدعاة، لكن المحصلة واحدة، وهي الكيد لأهل الحق وإيذاؤهم. وينتهجون في ذلك أساليب شتى، كالحبس، والقتل، والنَّفي، ومصادرة الممتلكات. وعلى الدَّاعية أن يركن إلى ربِّه، وأن يثق به، ويتوكَّل عليه، ويعلم: أنَّ المكر السَّيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عزَّ وجل: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: 30)، وأحسب أن تلك شيم وسمات" الإخوان المسلمون" قادة وأفرادا في سجون هذا الانقلاب الباغي ؛ ثبات على الحق حتى آخر نفس، دون أن يفرطوا قيد شعرة في الدعوة، وأحسب أن أخانا الشهيد -بإذن الله تعالى- الدكتور عصام العريان الذي لقي ربه قبل أيام، ومن سبقه من الشهداء سيظلون مضرب المثل والقدوة لأبناء الدعوة وأبناء الأمة، وعلامات مضيئة على طريق الدعوة إلى الله ونصرة الحق والحرية، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء عن دينهم ودعوتهم وأمتهم.

وفي هذه المناسبة أتقدم بخالص عزاء الإخوان المسلمين جميعا لعائلة الدكتور الشهيد عصام العريان ولأسرته الكريمة ولإخوانه وتلامذته ومحبيه، وأقول له: أيها الحبيب.. الواثق بربك، الثابت على دينك ودعوتك وبيعتك: ربح البيع.. ربح البيع.. ربح البيع.

أيها الإخوة والأخوات

هكذا دعوتنا.. دعوة الحق والقوة والحرية تمضي في طريقها منذ ما يقرب من قرن من الزمان دون وجل أو تردد، مقدمة أغلى ما لديها من قوافل الشهداء، وإن معالم الهجرة النبوية ودروسها، تؤكد لنا أن ركب هذه الدعوة المباركة لن يتوقف بموت أو قتل الداعية المصلح، بل يكون خير زاد علي طريق مسيرتها المباركة، في كنف الله الحميد المجيد.

فإلي عامنا الجديد علي بركة الله وتوفيقه وفي سبيل نصره وتمكينه "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.." (الأنفال من الآية 10).

أ.د. محمود عزت

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين

الخميس غرة المحرم 1442 هجريا 20 سبتمبر 2020 ميلاديا