فجرت المظاهرات "المعيشية" التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس مؤخرا؛ أزمات ظلت مكتومة في قمة السلطة الحاكمة باسم الوفاق في العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية، وخاصة بين رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج ووزير داخليته فتحي باشاغا، انتهت بإطاحة الأول بالثاني، وإحالته للتحقيق، وما تبع ذلك من ردود فعل لأنصار كلا القائدين، حرفت الأنظار ولو جزئيا عن المعركة الكبرى (مواجهة عدوان خليفة حفتر والحلف الإقليمي والدولي الداعم له).
لقد حققت قيادة الوفاق "السياسية والعسكرية" خلال الفترة الماضية انتصارات مهمة أعادت التوازن بينها وبين حلف حفتر، وساعدها على تحقيق هذه الانتصارات تماسك جبهة الوفاق وقادتها، والدعم العسكري والسياسي والتقني التركي. لكن هذه الانتصارات أصبحت مهددة مجددا مع تفاقم الصراعات بين رؤوس الوفاق، وهي الصراعات والحساسيات التي دفعتهم للتصرف الفردي دون تشاور مع بعضهم البعض.
فخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، تحرك لعقد لقاء مع عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، في المغرب، حيث مهْد الاتفاق السياسي في الصخيرات أواخر عام 2015 والذي تحكم به ليبيا حتى الآن. ويبدو أن تلك التحركات تمت دون تنسيق تام مع رئيس الحكومة فايز السراج، أو دون رضاه على الأقل، ولذلك فقد سارع بقطع الطريق عليها بإعلان اتفاقه مع عقيلة صالح يوم 21 آب/ أغسطس. وعلى الأرجح فإن ذلك الإعلان جاء مفاجئا لباقي أطراف الوفاق، ولذلك فقد أعلن بعضهم رفضها له، بينما أضمر آخرون الرفض، لكنهم سعوا لعرقلته.
وكانت أحدث الحلقات هي تباين التعامل مع المظاهرات المطلبية التي اندلعت في طرابلس مؤخرا، والتي شهدت مواجهات مع بعض المجموعات المسلحة. وأعلن باشاغا رفضه للاعتداء على المظاهرات، وحرك قواته لحمايتها، بينما اعتبر السراج ذلك مؤامرة للانقلاب عليه؛ تستلهم تجربة حركة تمرد المصرية التي صنعتها أجهزة المخابرات الحربية ووفرت لها كل أسباب الدعم لحشد المتظاهرين في 30 حزيران/ يونيو 2013 ضد الرئيس مرسي، كغطاء لانقلاب عسكري للجيش لاحقا.
وما ساعد في تأزيم الموقف هو وصول المتظاهرين إلى بيت السراج، وتهديدهم لأمنه الشخصي، وهو ما عده تراخيا أو ربما تآمرا من باشاغا، فأوقفه عن العمل وأحاله إلى التحقيق أمام المجلس الرئاسي خلال 72 ساعة بشأن التصاريح والأذونات وتوفير الحماية للمتظاهرين والبيانات الصادرة عنه حيال المظاهرات وتداعياتها، والتجاوزات بحق المتظاهرين. وكان رد الأخير هو قبول التحقيق فورا، والمطالبة بأن يكون علنيا أمام وسائل الإعلام. ويبدو أنه لا يريد فقط تبرئة ساحته، بل تحويل الدفة ضد السراج نفسه، ولو حدث ذلك فسنكون أمام مهزلة و"شرشحة" متبادلة لا تخدم سوى المتربصين بليبيا.
خلطت المظاهرات في طرابلس عملا صالحا وآخر سيئا، فهي وإن انطلقت لأسباب معيشية تتعلق بأزمة انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، في ما بدا أنه بفعل فاعل (كما كان يحدث في مصر في عهد مرسي)، وأزمة السيولة، وتراجع قيمة الدينار، وضعف الرواتب، إلا أن بعض المشاركين فيها (من أنصار حفتر أو الناقمين على حكومة الوفاق) رفعوا شعارات وهتافات سياسية ضد حكومة الوفاق وضد السراج.
وفي زمن الحرب يقال دوما لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكان من المفترض على الجميع تقدير اللحظات العصيبة التي تمر بها ليبيا، وهي على أبواب تسوية سياسية بعد حرب مدمرة أكلت اليابس والأخضر، وأفقدت البلاد عشرات المليارات من الدولارات بسبب توقف إنتاج وضخ النفط.
في وقت الحرب لا بد من قائد واحد له الأمر والنهي، ومهما كان السراج ضعيفا أو باهتا فهو القائد المعترف به دوليا، ولذا كان من الواجب على الجميع التعاون معه بإخلاص، والامتناع عن منازعته الأمر حتى تنتهي الحرب، خاصة أن الجميع يعلم أنه لا يمكن عزله بقرار محلي. وكان على حكومة الوفاق نفسها أن تراعي ضرورات الحياة للمواطنين لتضمن تكاتف الجبهة الداخلية. وكان على المواطنين الصبر قليلا حتى تضع الحرب أوزارها، وقد شارفت بالفعل، بعد إعلان وقف إطلاق النار يوم 21 آب/ أغسطس، والذي لا يزال ساريا بشكل عام رغم بعض الخروقات المتقطعة بين الحين والآخر.
للأسف ترهلت حكومة الوفاق في الفترة الماضية ونشأت فيها مراكز قوى، بسبب الأداء الباهت لرئيسها الذي جاء بتوافق دولي، وظهرت ممارسات الفساد دون أن تجد مواجهة صارمة، وهي التي تسببت في انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة عن المواطنين الذين لم يطيقوا صبرا. وظهر التنافس في قمة هرم سلطة الوفاق، كما التنافس على جلد الدب قبل اصطياده.
وكان من المفترض أن تجدد حكومة الوفاق نفسها، وتستعيد حيويتها وتضرب بيد من حديد المفسدين والمقصرين، فهذا جزء من خبرات الدول في حالة الحروب أيضا، حيث تتيح حالة الحرب التعامل بقوانين استثنائية في التعامل مع تلك الحالات، وحتى يشعر الشعب بأن حكومته لا تقبل في صفوفها فاسدا أو متربحا بعصبيته وقبيلته. (هذه الملاحظات "الصديقة" عن حكومة الوفاق لا تعني أن الطرف الآخر (أي حلف حفتر) هو أفضل حالا، بل العكس هو الصحيح تماما فسوء الخدمات في المنطقة الشرقية لا يقل بأي درجة بل يزيد على طرابلس والغرب، ولكن الفارق أن حكومة الوفاق سمحت بالتظاهر في حين يحظر ذلك تماما في المنطقة الشرقية).
أفاقت حكومة الوفاق على وقع مظاهرات لم تكن بحسبانها في قلب العاصمة، فاجتمع السراج مع رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لوضع استراتيجية للمكافحة، وأعلن عن فتح جميع الملفات المتعلقة بإهدار المال العام، وتفعيل إقرارات الذمة المالية للمسؤولين، كما أعلن اعتزامه تشكيل حكومة جديدة بعيدا عن المحاصصة القبلية (وإن كان هذا الأمر مشكوكا فيه). وعلى كل حال فإن السراج لو اتخذ هذه الإجراءات قبل أسابيع أو شهور فإن المظاهرات لم تكن لتندلع، وكانت الصورة المتماسكة للشعب خلف قواته المسلحة هي التي ستستمر.
الصدام الحاصل في أعلى هرم السلطة في طرابلس هو رسالة سلبية للحلفاء والأنصار، سواء داخل ليبيا أو خارجها، وحين يفقد هؤلاء الحلفاء الثقة في القيادة الليبية، فإن ذلك سيدفعهم لإعادة النظر في مواقفهم وسياساتهم تجاهها. وكم كان المأمول أن يحل الرفاق خلافاتهم بأنفسهم داخل "بيت الوفاق" لكن ذلك لم يحدث، فوجدنا مسعى أمريكيا لإصلاح ذات البين، ودفع القائدين المتصادمين حاليا السراج وباشاغا للعمل معا. وإذا لم تفلح جهود الوساطة المحلية والخارجية فإن ذلك سينعكس سلبا على حكومة الوفاق، فيا قادة الوفاق لا تخذلوا أنصاركم وحلفاءكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
-----
نقلاً عن "عربي21"