بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين.
الأخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شكرًا لكم على الدعوة للمشاركة فى لقائكم هذا الذي يستدعي، مع أعمق جراح الأمة والإنسانية كلها، جراحات أخرى يزداد ألمها وعددها مع ما يجرى على أرض الله سبحانه وتعالى الذى شاءت إرادته أن يسكنها أبو البشرية آدم عليه السلام وزوجته حواء مع غيرهم من خلقه سبحانه، ويتوالى عليها الأنبياء والرسل بكلماته ورسالاته العليا بما خاطب به خلقه من ذرية آدم وبقوله فى آخر الرسالات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات13).

إن الحديث عن فلسطين -أيها الأخوة- ومأساتها، التى ابتليت بها أجيال عديدة، لا تنسينا مآسٍ أخرى كثيرة تجري على الأجيال الحديثة في أكثر من أرض، يراها أصحابها من الثقل ما يساوي ما يجري على أرض فلسطين، وإن حظيت أرض الإسراء والمعراج بما تنزل فيها من قوله سبحانه فى سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).

ومن علامات زماننا روابط لا تغفلها العيون بين كل هذه المآسي، وتؤكدها قرارات الأمم المتحدة وقوانينها التي تشملها، وتدين هذه الاعتداءات على أراضي الشعوب وانتهاك حرماتها ومقدساتها وسفك الدماء الحرام، ومواصلة ذلك رغم تكرار القرارات الخاصة بتجريم هذه الأفعال، وتجاهل نداءات كل المؤسسات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، حتى كادت الحياة على الأرض أن تكون رهينة للمستكبرين.
وعندما نقول الآن فلسطين إلى أين؟ فهو السؤال الذي يجري منذ قرون، وخاصة منذ حادثة الإسراء والمعراج وتاريخ الأنبياء والرسل على هذه الأرض، ثم هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامة أول دولة مسلمة على أرض طيبة، التي شكلت فيها الأديان المقيمة عليها أمة واحدة تشمل المسلمين واليهود وغيرهم.

ثم تأتى رحلة الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، إلى القدس ووقوفه أمام أبواب كنيسة القيامة وتأدية صلاته على بعد أمتار منها لتأكيد حرمتها، وإعطاء أتباع الأديان السماوية الثلاثة الحق فى أداء مناسكهم وحماية دولته لهم، وتأكيد قدسية هذه الأرض وما عليها من أحجار وميراث تحققت به ملامح الحضارات الإنسانية التى يجب الحفاظ عليها، وتكون إرثًا يجب حمايته وعدم المساس به أو تخريبه قبل أن تتفق اجتهادات البشر بعدها بقرون فى إيجاد مؤسسة اليونسكو وأمثالها.

ولإتمام المشهد يدفعنا تاريخ المنطقة إلى ضرورة كشف حقائق الحملات الصليبية التى جرت على الأرض بعد ما قام به الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وقد تجاوزت العشر حملات بين عام (1096 - إلى عام 1291 ميلادية)؛ للسيطرة على المنطقة، دون اعتبار لأي تخريب أو دماء بريئة تسال على أرضها، بلغت في حملة ما تم تسميتها بحملة الملوك إلى قتل ما يقارب الستين ألفًا من سكان المنطقة فى ساحة المسجد الأقصى، ولم تسفر هذه الحملات عما كانت تطمع فيه، بعد دفاع سكان الأرض عن مقدساتها، عبر تاريخ دامٍ لمذابح بشرية للمعتدي والمعتدى عليه.

وتأتي بعدها فى عام 1798 ميلادية حملة (نابليون بونابرت)، أحد رموز الثورة الفرنسية العلمانية الشهيرة التي لم تنجح هي أيضًا عسكريًا، وإن استمرت فى تنفيذ برامجها بطرق أخرى لإعطاء هذه الحملة دورها الغريب على الناس وعلى الأرض، وإنكار أي دور للرسالات السماوية في تشكيل حياة الناس، لتكشف أهداف هذه الحملات التي يحاول بعض كتاب التاريخ تجاوزها أو إنكارها.

وبعد وعد بلفور فى 2- نوفمبر- 1917 ميلادية، الذى يتوافق مع تاريخ هذه الندوة، وما جرى نتيجة لهذا الوعد، فالآن وأثناء هذه الندوة ومتابعة الشعوب لانتخابات الرئاسة الأمريكية، فقد تكشف أمام الجميع كيف تم تقزيم قضية فلسطين وتاريخها لتصبح سلعة لتفاهمات ومصالح شخصية للرئيس الأمريكى الذى يسعى إلى جمْع أصوات ليحظى بفترة رئاسية ثانية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي العلماني الذي يسعى إلى الحفاظ على منصبه هربًا من مواجهة قضائية لا تتعلق بعمله الرسمي.

الإخوة الكرام
لا يمكن اعتبار أن الأحداث الأخيرة على ما جرى فيها، قد أجابت على سؤال: فلسطين إلى أين؟ فهذا الجيل يعيش بكل أطيافه وأديانه وطبقاته وألوانه فترة غير مسبوقة:

أولها: جائحة كورونا التي أربكت الجميع، ليس فقط فيما يخص الاقتصاد ودفع بعض الدول إلى حافة الإفلاس، ولكن فى ارتفاع الحديث عن مناعة القطيع التى تشمل كل أطياف البشر، وتبنّي بعض رؤساء الدول لها دون اعتبار لأخوة الإنسانية.

ثانيها: القفزة الهائلة فى فنون تصنيع السلاح، الذي أصبح فى مقدور الجميع إنتاجه واستخدامه دون أي سيطرة لأي قوة على الأرض، مما يصبح تهديدًا لحياة البشر ونذيرًا لفوضى إذا بدأت على يد عنصرية أو طائفية فقد لا يمكن السيطرة عليها.

ثالثها: ضعف التكتلات الأممية والمستقلة التي تسعى إلى إنصاف البشر وإيقاف حالات التردي في حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الدولية.

رابعًا: الانكفاء العجيب لحماس الأمة العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية، وانشغال شعوبها بقضاياهم المحلية، وفشل مؤسساتهم فى إيجاد أية حلول لها، وهو ما يوجب الاجتهاد فى إيقاظ روحها وإشاعة السلم والسلام بين صفوفها.. حكامًا ومحكومين.

والسؤال: فلسطين إلى أين؟ يوجب على الجميع النظر إلى كل هذه العوائق وغيرها، دون التأخر في تفعيل قوى كثيرة على الأرض جاهزة للعمل والكفاح لإنصاف فلسطين، وأمثالها من القضايا الأخرى، ويمكن الإشارة إلى بعضها مثل:

أولًا: عدم اعتبار قضية فلسطين أو قضايا محلية أخرى ملك أصحابها فقط، بل هي تمس كل البشر، مع التأكيد على تمتين وحدة الشعب الفلسطيني وتوحيد رؤاه في حل القضية.

ثانيًا: العمل على حشد بعض المفكرين والمنصفين والمعارضين لوعد بلفور من كل الأديان وتكثيف جهودهم مثل "ناطوري كارتا"، والجمع الغفير من العلماء والمفكرين المنصفين، ليكونوا جميعًا لسان صدق يواجه كل ما يقف أمام مخططات الظلم والتغريب.

ثالثًا: عدم اليأس من ضعف مشروع الأمم المتحدة، ومناشدة الدول إلى تفعيل مؤسساتها الإنسانية والحقوقية وتشكيل نظام شعبي مماثل وداعم لها، وإعمال العقل والاجتهاد في ما ينفع كل القضايا، وواجب اللحظة وضع الأقدام على الطريق الصحيح، مع اليقين بأن الله سبحانه وتعالى هو العدل وهو الذى بيده ملكوت كل شيء، وأمره قائم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد – 7).

خالص الشكر مرة ثانية، مع تمنياتي بالتوفيق وتقديري للإخوة المشاركين وكامل الاحترام للجميع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الثلاثاء 16 من ربيع أول 1442 هـ- 3 نوفمبر 2020م