لذة الظالم أن يتخلى صاحب الحق عن دعوته .. تركة قديمة موروثه عن سلف خبيث: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾.

لكن رحمة الله تأبى إلا أن تنال الصالحين من عباده، فتتسرَّب إلى قلوبهم نسمات، منعشات في الأزمات والمُـلِمَّات لتعصم من الزلل، وتعبر بهم جسر الفتن إلى الواحة الغناء والروضة الفيحاء المُـسمَّاة عند أهل الإيمان: اليقين.

وهو ما حدث مع الوالد الحبيب رحمه الله .. حين لطم ظالمه ودحر شيطانه وعصم نفسه وأرضى ربه، واستعان في هذا بمثل بسيط جميل، واسمعوا إخوتي القصة على لسانه:

«استدعاني الضابط ، يوما، إلى مكتبه بمعتقل طرة، ورحَّب بي، ودعا لي بفنجان من القهوة، ثم سألني: هل أنت مبسوط في المعتقل؟ فكان ردي: هذا طبعا مستحيل، وأنت خبير بالمثل القائل: يغور السجن ولو كان في جنينة، والقرآن في وصفه للجنة يقول: ﴿جنَّاتٍ عَدْنٍ مُفتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوابَ﴾، فعاد المَفْتُون يضرب على الوتر: أولادك يا أخي محتاجين لك.. قلت له: هل اشتكى لك الأولاد من شيء؟ ثم أردفت: هذا أمر لا يهمني.. وتفكيري منصرف في ما هو أهم: هل أعود إلى بيتي وأولادي؟ أم أخرج من هنا إلى القبر؟ ثم أكدت ذلك بأن ضربت له مثلا مضمونه أن لي في هذا المكان (سلة عيش وجرَّة ماء وقِرْبة نفس)، لما يخلصوا أخرج إلى حيث يشاء الله .. وبذلك وعن قصد، أوصدت الباب في وجهه تماما، وانتهى اللقاء، ولم يظفر صاحبنا مني بما كان يبغي ويتمنى.

وهذه الفكرة صحبتني منذ دلفت إلى المعتقل، فأفادتني في كل المواقف.. كان الأهل والأقارب يزورونني، ويطلب أحدهم أن أسطر برقية من بضع كلمات تنقذني من ظلام السجن ، فأتذرع بهذه الفكرة: سأخرج حين ينفد ما قُدِّر لي من طعام وشراب ونفس، فيئسوا من الاستمرار في نصائحهم.

وشاء الله عز وجل أن يكون هذا الضابط هو المشرف عن عملية الإفراج يوم 16 أكتوبر 1971 الذي تقرر فيه الإفراج عني، وبعد الفراغ من الإجراءات وصرت خارج المعتقل، قفزت إلى ذهني فكرة تذكيرِه بالمثل، فعُدتُ إليه أرجوه أن يأذن لي بالدخول متعلِّلا بأن لي شنطة تركتها بالداخل، ولم أكن في الحقيقة في حاجة إليها لكونها قديمة، فاعتذر لي بشدة قائلا: لا يا أستاذ أحمد .. هذا طبعا ممنوع، وكان ردي على الفور: طبعا ممنوع لأن ما قُدِّر لي من طعام وشراب ونفس قد نفد، وبعبارة أخرى ما عدش ليَّ عيش عندكم!! ».

ما أبرد وقع اليقين على القلب، وما أحلى سكينته على النفس، وما أقوى تثبيته لقلوب الصالحين .. وأي جرعة شجاعة بثها في نفوسهم ورباطة جأش سكبها في أرواحهم.

(سلة عيش وجرَّة ماء وقِرْبة نفس)..

 كلمات قليلة ذات معان كثيرة، زرعت في قلب قائلها وتزرع في قلب القارئ بإذن الله:

1.  بذور الشجاعة واليقين الأجل:

اعتبروا يا أولي الأبصار..

خالد بن الوليد .. رمى بنفسه في مواطن القتل كلها، فما قتله سيف الحرب، إنما قتله سيف المرض؛ فمات على فراشه، ونفس الدرس استفدناه من امرأة مجهولة الهوية، لا نعرف لها اسما .. قتل الحجاج ابنها ثم أراد نكأ جراحها مستهزئا بها متشفيا بحالها فألجمته بقولها: مسكين أنت يا حجاج .. لو لم تقتل ابني لمات!!

لكن لماذا أسوق قصص الصالحين من سلف سابقين؟! ولا أدعم فكرتي بقصص غير المسلمين من خَلَفٍ معاصرين، أزيد بهذا إيماني وإيمانك بأنه لا يغني حذر من قدر، وبأن أقدار الله غلابة، أنزع بهذا مخالب الشيطان يغرسها في قلب إيمانك، ولأن وقع الأحداث أعلى دائما من جرس الكلمات فقد أتيتُ لك بهذه الواقعة:

حدَث إبان الثورة الأمريكية أن رأى الوزير المالي للمستعمرات الشرقية روبرت موريس  حلما أنه سيُقتل بقذيفة مدفعية أثناء زيارته لإحدى سفن البحرية في اليوم التالي، وقد أقلقه الحلم لدرجة أنه فكَّر في إلغاء الزيارة، إلا أنه عدل عن رأيه، وقرر اتخاذ «الاحتياطات» اللازمة، فأصدر أوامره إلى قائد السفينة بأن لا تطلق مدافع التحية أبدا حتى يعود إلى الشاطئ، كما حذَّره من ملء الجنود لأي أسلحة نارية أو وجود أي بارود على ظهر السفينة، وبالفعل انتهت الزيارة بسلام، واستقل موريس وأعوانه أحد القوارب نحو الشاطئ،  وفي تلك الأثناء كان قائد السفينة  يراقب وصول القارب، فوقفت ذبابة على أنفه فرفع يدها ليبعدها، فظن أحد الجنود أنها إشارة البدء بإطلاق مدافع التحية، وهكذا أطلق الجندي قذيفة انحرفت باتجاه القارب الذي يستقله موريس فتسببت في موته، وهو يُهِمُّ بالنزول إلى الشاطئ!!

وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال: «إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها».

أو بتعبير الوالد الكريم: (سلة عيش وجرَّة ماء وقِرْبة نفس).. فلن نغادر هذه الحياة حتى يكون رزقنا فيها قد نفد، لذا لن يقوى أحد مهما بلغ سلطانه أن ينزع روحا بقيت لها في الدنيا لقيمات وشرَبات وأنفاس.

وإذا كان الأمر كذلك إخوتي .. فإن الطعن في النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، والموت مقبلين أشرف لنا ألف مرة من الموت مدبرين، ولا فارق عندها بين استقبال الموت أو استدباره ما دام في كلا الحالين نازلا، وما دمنا ملاحقين في مطاردة محسومة النتيجة: إن واجَهْنا ملك الموت أخذنا، وإن فرَرْنا منه أدركَنا!!

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ *** فمن العار أن تكون جبانا

إنها الشجاعة التي صاغها عمر بن عبد العزيز دعاءً حين عرضوا عليه أن يتخذ حرسا، ويحترز في طعامه وشرابه، فرفع الراشد الخامس يديه إلى السماء داعيا بصدق وخشوع: اللهم إن كنتَ تعلم أني أخاف دون القيامة شيئا فلا تُؤَمِّن خوفي!!

إنها الشجاعة التي غرست الرجولة في قلوب المؤمنين .. وخلَّصتهم من ولاية الشياطين!! نعم ولاية الشياطين .. ذلك أن كل من خاف غير الله فقد والى الشيطان من حيث لا يشعر: ﴿إِنَّما ذَلِكُمْ الشَّيْطانُ يُخوِّفُ أَوْلِياءَهُ﴾.

الشجاعة التي تؤدي إلى الخطوة الثابتة في الاتجاه الصحيح، ذلك أن الجبان لا يتقدم خطوة إلا ويتراجع خطوات، واليد المرتعشة لا تتقن صنع شيء، أما الواثق بربه .. المطمئن إلى تدبيره وقدره، فهذا هو من يبدع ويتألق، وصدق محمد إقبال حين قال:

إني رأيت الخوف في الدنيـــا عدوا للعمــــــــل

هو مطفئٌ نورَ الرجاء وسالبٌ كنــــــــزَ الأمل

يرمي الإرادة بالتزلـــزل والعزيـــــــمة بالخـوَر

ومن احتواه الخوف لا يجني من الروض الثمر

ثم بيَّن حلاوة عقبى الشجاعة وسوء عاقبة الجبن فقال:

المؤمن الوثَّاب تعصِمه من الهـــول السكـينه

والخائف الهيَّاب يغرق وهو في ظل السفيـنه

تلقاه عند شبـابه هرما قد انحطـَّـــــت قـواه

وتعثَّـرت قدماه قبل الخَطْو وارتعشت يـداه

2.  بذور التوكل واليقين الرزق:

أصبحت قضية الرزق اليوم شبحا يطارد الناس ليل نهار؛ الشيب منهم قبل الشباب، حتى أصبحت عبارات العوام تمتلئ بمثل قولهم: فلان قطع عيش فلان .. وأفعالهم تنطق بأكثر من هذا، حتى هلك بهذا خلق كثير، فما سرق من سرق، ولا خان من خان، ولا نافق ولا سكت عن باطل أحدٌ إلا من جرَّاء هذا المرض، وصار للناس آلهة تُعبد من دون الله، يرجون نفعها ويخشون ضرها، يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، ويرجون منها ما لا يرجون من الله.

مع أن رسولنا الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ طمأن القلوب القلقة والنفوس المضطربة فقال: «لو أنَّ ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركُه الموت». صحيح، وقد شرح الفاروق عمر بن الخطاب قول حبيبه فقال:

«ما من امرئ إلا وله أثرٌ هو واطئه، ورزقٌ هو آكله، وأجلٌ هو بالغه، وحتفٌ هو قاتله، حتى لو أن رجلاً هرب من رزقه لأتبعه حتى يدركه، كما أن الموت مدركٌ من هرب منه».

بل إنَّ رزق المرء أسرع إليه من ملك الموت إن حدث وتسابقا!! قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ : «إن الرزقَ ليطلب العبدُ أكثر مما يطلبه أجله». صحيح

    لا تعجلنَّ فليس الرزق بالعجل           

الرزق في اللوح مكتوبٌ مع الأجل                                    

 فلو صبرنا لكـــان الرزق يطلبنا            

 لكنَّه خُـلق الإنســـانُ من عَجَـــــــل

 

3.     بذور الرضا واليقين بالخير:

ومن آثار كلمة الوالد أن من وثق بالمقادير لم يعرف الغم إليه سبيلا، ذلك أن اختيار الله له خيرٌ من اختياره لنفسه، وربٌّ ودودٌ رحيم لن يقدر لعباده إلا الخير ولو كان الظاهر مؤلما.

وأخيرا .. أخي ..

لا تنس في لُـجَّة الأزمة وخِضمِّ الشدة أن الأمر لا يعدو أن يكون (سلة عيش وجرَّة ماء وقِرْبة نفس)، ثم سرعان ما ترحل إلى الدار الآخرة .. ليجزيك الله على شكرك أو صبرك، ويحاسبك بما كان منك حالَ غناك أو فقرك، وتصبَّر أحي إن عيل صبرك بما تصبَّر به أحمد بن المُعَذَّل بالبصرة يومَ مات ابنه فاسترجع ثم أنشأ يقول:

نؤَمِّل جنة ً لا موتَ فيها     ودُنيا لا يكدِّرها البلاءُ

عِش هادئ البال .. ولا تنشغل بما خُلِق لك عما خُلِقت له ..

لا تستسلم لمن هدَّدك في رزق أو أجل وهما مضمونان؟!

لا تتخل عن مبادئك من أجل تهديد من رعديد أو وعيد من عربيد!!

لا تلتفت لحظة عن طريق الحق إن أغروك بمغنم أو هددوك بمغرم ..

واذكر إن نسيت قصة: (سلة عيش وجرَّة ماء وقِرْبة نفس)، ولا تنس عندها الوالد الحبيب بدعوة، فهو أصل الحكاية ومصدر الرواية.

اللهم اجعل سرورنا في مواضع القدر .. واربط على قلوبنا إن أحاطت بنا الفتن .... وارحم عبادا حطّوا رحالهم عندك .. واختر لهم ما يُصلِح دنياهم وآخرتهم ..  واصرفهم عن ما يضُرُّهم دنيا وأخرى.. ولا تجعل لنا الخيرة من أمرنا  .. رباه استجب.

إلهنا .. دعوتَ عبادك في كتابك إلى أن يصلوا أرحامهم، ويرحموا ضعفاءهم، ويُكرِموا فقراءهم، فهب لي رحمة من عندك تصلني بفضلك العظيم، وقوة تجبر بها ضعف الضعيف، وكرما من لدنك يسد فاقتي وأنا الفقير، فإنك أرحم من وصل، وأكرم من أعطى.