الآن وبعد حادث الناقلة العملاقة، جاءت الفرصة سانحة لكل المشاريع الطامعة والمتربصة لاختطاف دور قناة السويس الاستراتيجي والاقتصادي الكبير.

فتلك "الحادثة" التي هزت العالم كله تقريبا وضعت العالم كله أمام البحث عن خيارات بديلة تأمينا لـ12 في المئة من تجارته التي تمر من قناة السويس، بما فيها تدفقات النفط الخام (عصب الصناعة) من الشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة، ومنتجات النفط مثل زيت الوقود إلى آسيا.

ونظرة متأنية لما جرى ونتائجه سنضع أيدينا على المحاور التالية:

1- هناك شكوك قوية تحوم حول تلك الحادثة بأنها تمت بتدبير محكم، تزامنا مع ترجيح رئيس هيئة قناة السويس أن يكون وراءها خطأ فني أو بشري. وقد نشرت وكالة "نوفوستي" الروسية صورا وفيديو يكشفان عن مسار غريب سلكته الناقلة Ever Given، قبل دخولها قناة السويس. ويظهر من الصور أنها سلكت مسارا دائريا وغير مفهوم، قبل أن تدخل ممر القناة (حسب الوكالة). ويعزز تلك الشكوك، أن الناقلة العملاقة حديثة الصنع، فقد تم بناؤها عام 2018م، وبالتالي فإنها ذات مواصفات قادرة على التعامل مع أي طارئ مناخي، من نوع سرعة الرياح واتجاهها وما شابه.

2- وفق تقديرات صحيفة "لويد ليست Lloyd's List" المعنيّة بأخبار النقل البحري، فإن "تكلفة الانسداد على مصر والعالم وقطاع الشحن البحري قد تبلغ نحو 400 مليون دولار في الساعة الواحدة، فيما يبلغ إجمالي حركة الشحن البحري في القناة 9.6 مليارات دولار يوميا (المتجهة غرباً تبلغ نحو 5.1 مليارات دولار والمتجهة شرقاً نحو 4.5 مليارات دولار).

وفي الوقت نفسه، فإن البيانات الصادرة عن بورصة "البلطيق" بزيادة أرباح الناقلات العملاقة تمثل مؤشرا لاتجاه شركات الشحن إلى الناقلات العملاقة لتمرير تجارتهم بعيدا عن قناة السويس (عبر رأس الرجاء الصالح)، تحاشيا لتكرار مثل هذا الحدث مستقبلا، وضمانا لعدم تعطل تجارتهم وإلحاق خسائر فادحة بهم، وذلك ما يمثل تهديدا جزئيا للملاحة في القناة.

ولا شك أن بقاء 400 سفينة في حال انتظار (وفق بيان رئيس هيئة قناة السويس)، معطلا أكثر من 12 في المئة من التجارة العالمية ومتسببا في خسائر ضخمة بلغت في اليوم الواحد ما يقرب من 10 مليارات دولار، يكشف حجم الكارثة وفي نفس الوقت يكشف عن خطورة وأهمية قناة السويس كممر استراتيجي للتجارة العالمية، وفي نفس الوقت يكشف مزيدا من أهمية مصر. وكان ذلك أدعى للحكومات المصرية المتعاقبة لتسارع إلى وضع القناة في مصاف أحدث وأرقى الممرات المائية في العالم من حيث الإمكانات والأداء الفني، لكنها حكومات غارقة في الفساد، وكلما جاءت إحداها لعنت أختها! حكومات بناء القصور وتوزيع العطايا أهم من أخطر وأهم مرفق بحري في العالم.

3- وبالتالي فلم يتم تبني مشاريع جادة لتوسيع القناة ليصبح المرور فيها كاملة بصورة مزدوجة، وتجديد منظومة الحركة والإرشاد فيها، والتأمين ضد المخاطر والكوارث، وتخصيص ميزانيات على قدر أهمية ذلك، في وقت ثبت عدم جدوى مشاريع التوسيع والتفريعات التي صاحبتها ضجة إعلامية كبرى، وهز الثقة لدى العالم في الاطمئنان لمصداقية الإعلان عن تلك المشاريع الفارغة.

كل ذلك يمثل مقدمة طبيعية لتجديد الحديث مرة أخرى عن شق قناة إيلات- البحر المتوسط البديلة، وهو مشروع أعد له الكيان الصهيوني عدته منذ سنوات وحانت لحظة تفعيله في الزمن الذهبي الأغبر للتطبيع، خاصة مع منطقة الخليج وفي ظل الانقلاب.

وبالمناسبة، فإن لي كصحفي مع قناة السويس قصة عاصفة في بداية تسعينيات القرن الماضي، دامت ما يقرب من عام على صفحات جريدة الشعب المصرية، أقوى صحف المعارضة في ذلك الوقت وأكثرها جسارة في مواجهة الفساد، يومها خضت صراعا صحفيا مريرا ضد الفساد المفزع في مشاريعها الكبرى.. مشروع توسعة المجرى المائي.. مشروع التحكم الالكتروني لإرشاد السفن لعبور القناة بأمان، والأوضاع المالية والإدارية داخل شركاتها الثماني، وكلها مشاريع أثبتنا فشلها وشابها الفساد بعد أن تكلفت مليارات الدولارات.

وتحول الأمر إلى مواجهة إعلامية ساخنة مع رئيس مجلس إدارة هيئة قناة السويس في ذلك الوقت، المهندس محمد عزت عادل يرحمه الله (توفي قبل عام)، قادتني إلى محاكم أمن الدولة العليا. وانتهت التحقيقات المطولة إلى الحفظ بعد أن قدمت وثائق كافية لكل ما تم كشفه من فساد، زودتني بها قيادات في الهيئة من أشرف من قابلت في حياتي الصحفية، وبعد توقف الحملة بشهور غادر م. عزت عادل إلى البيت ولا أدري - أو أزعم - هل كنا سببا مباشرا في ذلك أم لا!

عقب ثورة يناير 2011م كان توجه الرئيس الشهيد محمد مرسي - يرحمه الله - لتدشين مشروع قومي كبير للنهوض بمحور منطقة القناة، بما فيها المجرى الملاحي؛ كفيلا بإحداث نقلة كبرى، ولكنهم عاجلوه بالانقلاب ودفنوا مشروعه، وشاغلوا الشعب بـ"لهّاية" اسمها التفريعة وبقيت القناة كما هي للأسف الشديد.

واليوم.. لا أعرف حقيقة الأوضاع داخل الهيئة بعد سفري للخارج لسنوات طويلة، وأتمنى أن تكون قد تغيرت للأفضل، لكن الصورة فيما تبدو لمن يتأملها محبطة، بما يعرض سمعة قناة السويس المحفورة في وجدان كل مصري، وأحد أهم الممرات المائية في العالم للتشويه وانعدام الثقة.