بقلم: د. عبد الحميد الغزالي

أصبح من الضروري على كل العاملين في حقل الدعوة، والمتطلعين إلى المساهمة الفعَّالة في بناء وتنفيذ المشروع النهضوي، والحاملين لهموم أمتهم، والساعين لاستئناف الحياة الإسلامية الحقة، أن يتعرفوا على الأسس التي بنى عليها الأستاذ البنا تصوره لمشروع النهضة، ويتبعوا المسار الذي انتهجه في وضعِ الأسس الفكرية للدعوة المعاصرة لهذا المشروع، ويعلموا فاعلية طريقه في التحركِ والانطلاقِ نحو تحقيق شروط هذا المشروع ويعملوا في النهاية، استمرارًا لجهاد الإمام الشهيد، على وضعِ المشروع موضع التنفيذ بنقله من عالمِ الفكر إلى أرض الواقع.

 

ومن خلال التعرف على هذه الأسس يمكن:

1- التعرف على منهجية التفكير العلمي الذي يحتاج إليه مشروع النهضة.

2- التعرف على مدى النواقص الفكرية التي تعاني منها الجهود التربوية المرجوة لمشروع النهضة.

3- ضبط حركة الدعوة لمشروع النهضة وفق الدروس التي استخلصها الأستاذ البنا.  

4- ربط الفكرة بجذورها الأساسية، وحمايتها من التيارات الفكرية الغربية عنها.

5- تأكيد الثقة في فكر حركة مشروع النهضة وسلامة منهجها في العمل.

6- الارتفاع بمستوى الولاء لحركة مشروع النهضة من الولاء العاطفي إلى الولاء العقدي والذرائعي الشرعي.

7- بناء أرضية مشتركة للمهتمين بالدعوة للمشروع وتنطلق منها قراراتهم في المجالات المختلفة.

 

ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها منهجية الأستاذ البنا لمشروع النهضة فيما يلي:

القسم الأول: التفكير في التحديات التي تواجه الأمة.

القسم الثاني: دراسة التاريخ والواقع.

القسم الثالث: استخلاص الدروس.

القسم الرابع: كيفية التعامل مع هذه الدروس.

 

القسم الأول: التفكير في التحديات التي تواجه الأمة

لقد أحس الأستاذ البنا بالتحدي الخارجي القوي الذي يُواجه الأمة، فدفعه إلى تفكيرٍ عميقٍ واستجابة مكافئة، في البحث عن إجاباتٍ للخروجِ من المأزقِ واكتشاف الدواء والعلاج، وهذا ما عبَّر عنه قائلاً: "ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهت نفسي وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس، ولقد أخذت أفاتح كثيرًا من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحيانًا والتشجيع أحيانًا، والتريث أحيانًا، ولكنني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العلمية.. وليت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب وصدق الود والشعور بالواجب، فوجدت استعدادًا حسنًا.. وكان عهد وكان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة".

 

"ليس أحد يعلم إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلتنا إليه إلى حد البكاء.. كنا نعجب لهؤلاء الناس وكثير منهم من المثقفين، ومن هم أولى منا بحمل هذا العبء، ثم يقول بعضنا لبعض: أليس هذا داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها، ألا تفكر في مرضها وألا تعمل لعلاج نفسها، ولهذا وأمثاله نعمل ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه" (رسالة المؤتمر الخامس).

 

فحال الأمة كما يقول الأستاذ البنا دعت إلى:

1- الانكباب على استعراض الحالة الإسلامية من مختلف جوانبها.

2- تحليل العلل.

3- البحث عن حلول.

القسم الثاني: دراسة التاريخ والواقع

إن تاريخ البشرية هو المحطة الثانية للباحثين في موضوع النهضة حديثًا وقديمًا، وهكذا تحركت الفكرة عند الأستاذ البنا، وقادته إلى البحث في كنوز التاريخ البشري، حيث التاريخ البشري مخزن التجارب الإنسانية الناجحة والفاشلة، وعلى كل من يتحرك لإحداث تغيير اجتماعي في مجتمعه وأمته لا بد أن يلم بالتاريخ الإنساني كي يتجنب الوقوع في عثرات مميتة، والتاريخ مدرسة التعليم الأساسية في العلوم الإنسانية، منها يستقي المفكرون نظرياتهم عن مسيرة البشرية وإدراك العبرة من حركتها، ولهذا اهتم الأستاذ البنا بدراسة التاريخ دراسة عميقة. وقد أشار إلى ذلك في أكثر من موضع في رسائله، وسنفرد فصلاً كاملاً لهذا الموضوع، وهو الفصل الثاني وحسبنا هنا الإشارة.

 

ويكفي هنا أن نسجل النظرة التاريخية الثاقبة للأستاذ البنا في رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس حيث يقول: "إن نهضات الأمم جميعها إنما بدأت على حالٍ من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أنَّ الصبرَ والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروته ما يرجو القائمون بها من توفيقٍ ونجاح؛ ومن ذا الذي كان يُصدِّق أنَّ الجزيرةَ العربيةَ وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ ومَن ذا الذي كان يظن أنَّ أبا بكر، وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتقضه الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يُخرِج في يومٍ واحدٍ أحدَ عشرَ جيشًا تقمع العصاة وتقيم المعوجين وتؤدب الطاغي وتنقم من المرتدين، وتستلخص حق الله في الزكاة من المانعين؟" (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

 

القسم الثالث: استخلاص الدروس

إنَّ الحديثَ عن الدروس التاريخية في فكر الأستاذ البنا وكتاباته موضوع يجب أن يختص بدراسة مستقلة، ولكننا هنا معنيون بالمنهجية، ويكفينا أن تقول إن الأستاذ البنا كان يقرأ التاريخ بعيني قائد يبحث عما يعينه على إنجاز مشروعه. وسوف نتعرض في مكان لاحق لكثير من تقديرات الأستاذ البنا في هذا الشأن، ولكن حسبنا الإشارة إلى قوله معقبًا على حركةِ مشروع النهضة، بعد أن تتبع بعض الدروس التاريخية في رسالته "هل نحن قوم عمليون" قائلاً: "أعتقد يا عزيزي أنَّ كل انقلابٍ تاريخي وكل نهضة في أمةٍ تسير طبق هذا القانون حتى النهضات الدينية التي يرأسها الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم.. هذا كلام أعتقد أن القراء فيه قسمان: قسم درس تاريخ الأمم وأطوار نهوضها فهو مؤمن به معتقد له، وقسم لم تتح له الفرصة، فإن شاء درس ليعلم أني لم أقل إلا الحق، وإن شاء وثق فما أريد إلا الإصلاح وما استطعت.. كان ذلك في النهضات الموفقة، فهل سارت نهضتنا وفق هذا القانون الكوني والسنة الاجتماعية؟" (رسالة هل نحن قوم عمليون).

 

دراسة التاريخ، فكرة النهضة، القانون الحاكم: تلك هي العناصر الأساسية التي يشير إليها الأستاذ البنا في هذه المرحلة.

 

القسم الرابع: كيفية التعامل مع هذه الدروس

إنَّ أول شروط التعامل المنهجي السليم من السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم.. بل أن نفقه فقهًا شاملاً رشيدًا هذه السنن أو الدروس، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ"فقه السنن"، ونستنبط منها على ضوءِ فقهنا لها القوانين الاجتماعية والدروس الحضارية، وفي هذا يقول الأستاذ البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد" (رسالة المؤتمر الخامس).

 

من هنا ولد مشروع النهضة عند الأستاذ البنا. فمن دراسة حال الأمة، وتاريخها، وتاريخ العالم الناهض من حولنا، ومن خلال استقراء قوانين الحركة التاريخية، ومن خلال تكوين رؤيةٍ للتعامل مع هذه القوانين أو الدروس قامت حركة النهضة المعاصرة.

 

ويمكن إيجاز ذلك في أنَّ التحدي المتمثل في (التخلف) ولد ضرورة (الاستجابة) في فكرةِ مشروع النهضة والعمل على تنفيذه كمخرجٍ وحيدٍ من حالةِ التخلف التي تعيشها الأمة.