بقلم: وائل قنديل

بلا مواربة، يعلن "فيسبوك" أنه ليس فقط منحازًا للرواية الصهيونية للأحداث، وإنما شريك للكيان الصهيوني في جرائمه أيضًا.

نشرتُ بالأمس على "فيسبوك" صورة لطفلتين فلسطينيتين في غزّة، على وجه كل منهما ضحكة أجمل من الشمس المشرقة في سماء صافية، تمدّان أيديهما لمصافحة زعيم حركة حماس في غزّة، وهو يتجول على قدميه في شوارعها، بعد أسبوع من العدوان الإسرائيلي الغاشم الهمجي.

قلت في تعليقي على الصورة إن "فلسطين تقاوم أعداءها بالصواريخ والطفولة المبهجة"، ولم تمر أكثر من ساعة، حتى كانت قوات "فيسبوك" قد داهمت صفحتي الشخصية، وحذفت المنشور، وحذّرتني من أنه سيتم تعطيل الحساب نهائيًا، إذا كرّرت نشر مثل هذه الصورة، وما تحتها من كلام، والحجّة أن "مشاركتك تتعارض مع معايير مجتمعنا الخاصة بالأفراد والمنظمات الخطرة"، ثم تنذرني إدارة الموقع، بلهجة حاسمة، أنها ستعطّل حسابي، لو تكرّرت انتهاكاتي.

في الساعة ذاتها، كان صديق يلفت نظري إلى منشورٍ صهيوني لتعليم أطفال الاحتلال كيفية حمل السلاح والتصويب على الفلسطينيين وقتلهم، لم تجد فيه إدارة "فيسبوك" أي انتهاك أو تحريض على العنف الإجرامي. وبالتالي، لم تقترب منه يد المصادرة والإخفاء أو التهديد بالمنع من النشر، ولا يتعارض مع المعايير الاجتماعية أو الإنسانية، بينما وجدت في صورة طفلتين غزاويتين تفوحان بهجة وبراءة وعذوبة، إذ تلعبان أمام بيتهما الذي بقي واقفًا في وجه القصف الصهيوني الهمجي، ما ينتهك المعايير ويهدّد السلم والأمن الدوليين.

أنت هنا لست بصدد ازدواجية معايير، بل أمام إعلانٍ سافرٍ وواضحٍ وصريحٍ بأن معايير "فيسبوك" إسرائيلية صهيونية متطرّفة، تشبه تمامًا الخطاب العنصري الوقح للمتحدث باسم جيش الاحتلال، أو بنيامين نتنياهو شخصيًا، أو أحد زعماء اليمين الصهيوني المتطرّف في كراهيته لكل ما هو إنساني وكل ما هو نبيل. بل أصبح "فيسبوك" أسرع في رد الفعل على أي صوت عربي من الصهاينة أنفسهم، وبعد أن كان يفتش في الأرشيف، ويستخرج منشوراتٍ قديمة مرت عليها سنوات، ثم يحجبها ويعطل الحسابات على ضوئها، ها هو الآن ينقضّ، بمنتهى القوة والسرعة، على الكلمات والصور، بعد دقائق من نشرها، وكأنه يؤدّي وظيفة قوات كوماندوز إسرائيلية تنفذ عمليات اختطاف وإخفاء واغتيالات.

قبل عامين، كتبت عن عنصرية "فيسبوك"، حين فوجئت به يبلغني أنني محظور جزئيًا، عقابًا على مقالات صحافية وضعتها على صفحتي الشخصية، تعود إلى سنوات بعيدة، منها مقال تناولت فيه بالتحليل والنقاش الوثيقة التاريخية التي أصدرتها حركة حماس في العام 2017، وتحدّث عنها الإعلام في أنحاء العالم، بوصفها منعطفًا هائلًا في أدبيات الحركة.

غير أن "فيسبوك" اعتبر هذا النقاش خطرًا وانتهاكًا لمعاييره، فكتبت أن "فيسبوك" يريد منا أن نزيّف التاريخ، ونعبث بالرواية الحقيقية، أو نكتب بالحبر الصهيوني، كي نفوز برضاه ونصبح في عينيه بشرًا صالحين للكتابة والقول والتعبير عن الآراء.

وعلى الرغم من مزاعم الموقع إنه يحمي حرية التفكير والتعبير، ويحارب من أجلها، فإن الواقع يثبت سقوط  كل هذه المزاعم، ويكشف عن حقيقةٍ مؤلمةٍ تقول إن فيسبوك لا يجيد القراءة، وإن قرأ لا يفهم، وإن فهم فهو محكومٌ بمفاهيم صهيونية، يفرضها على مستخدميه، ويحبسهم في إطارها، ومن يخرج عنها يُطرد من جنته البائسة.

هذه اللوثة الرقابية  المفروضة على كل ما هو مع فلسطين وضد الاحتلال الصهيونية، اتخذت أشكالًا أكثر عنفًا مع ناشطين سياسيين وحقوقيين، من المشهورين وغيرهم، حيث شنّت إدارة "فيسبوك" مذبحة تعطيل حسابات وإلغائها، مع اشتداد القصف على غزّة، وبمرور الوقت يكتشف كثيرون أن "فيسبوك" لا يحمي، فقط، جرائم الاحتلال، لكنه شريكٌ فيها بتعقبه كل من يكتب كلمة ضد الظلم والإرهاب الذي يمارسه المحتل على الشعب صاحب الأرض.

هذا الواقع المؤلم يجعل من تطوير منصة عربية بديلة ودعمها ضرورة قومية وإنسانية، وأزعم أن منصة مثل  باز تستطيع أن تحقق هذه الغاية، وتكون البديل العربي المنشود، مع توفر الإرادة في التحرّر من هذه الغطرسة والوصاية العنصرية التي يمارسها الكولونيل فيسبوك على تاريخنا وجغرافيتنا ووجداننا أيضًا، إلى الحد الذي يجعلني أميل إلى تعطيل حسابي عليه، أو إلغائه تمامًا، مع تنامي الشعور بأنه موقعٌ يكره جلجلة ضحكة أطفالنا ورائحة خبزنا .. وبعبارة واحدة يكره إنسانيتنا.

نقلا عن "العربي الجديد"