إبراهيم بدوي

بصور العمائر العالية التي شيدتها شركة صينية في الصحراء، يبشر العسكر بجمهورية جديدة لا وجود لها إلا على شاشات الفضائيات وأوراق الصحف، بينما لا يرى المواطن أثرا لتقدم يذكر على أرض الواقع، حتى بات الإخفاق عنوان المرحلة التي تعيشها مصر حاليا، في ظل إجرام متواصل من السلطة الحالية بحق الإنسان، أداة التنمية الأساسية، بعد استبدال البنيان به، والذي يعد جزءا من ركام حضاري لا قيمة له إذا لم يسخّر لخدمة الشعب.

ومع استمرار تلك الجدلية بين البنيان والإنسان، يعيش الشعب المصري على وقع صدمات متلاحقة يتلقى الواحدة منها تلو الأخرى خلال السبع العجاف التي تلت الانقلاب على الديمقراطية في مصر، وكان آخرها تأييد محكمة النقض لأحكام الإعدام الصادرة بحق 12 من شرفاء الوطن في قضية فض اعتصام رابعة، وهو حكم نهائي على الطعون المقدمة في مهرجان "الإعدام للجميع" الذي خرج من محكمة جنايات القاهرة بحق 75 مواطنا، إضافة إلى أحكام متنوعة بالسجن شملت 600 آخرين.

أعترف بثقل الكتابة في هذا الموضوع على النفس، والصعوبة الشديدة في ترجمة المشاعر، ونقل المعاني عبر كلمات قد تخرج باردة دون أن تعبر عن مكنون الصدور؛ فلا يمكن تخيل هذا الوضع الكارثي الذي وصل إليه حال مصر، بعدما تغولت السلطة التنفيذية، فلم تعد تكتف بإبعاد المصلحين عن الحياة العامة وتغييبهم خلف الأسوار طول هذه المدة، وإنما تسعى للتخلص منهم إما بإعدامات تأتي بالأمر المباشر، أو بالموت البطيء من خلال الإهمال الطبي المتعمد وظروف الحبس القاسية، كما حدث مع الرئيس محمد مرسي والدكتور عصام العريان.

ومن أجل تجميل وجهه القبيح، وشرعنة أعماله الإجرامية بحق المصريين، لم تتوقف محاولات تزييف الوعي وقلب الحقائق، التي دأب عليها النظام من خلال الدراما والأذرع الإعلامية، والتي أزعم أنها لن تفلح؛ فقد شاهد الجميع مجزرة فض الاعتصام على الهواء مباشرة، ووثقت الكاميرات فصول أكبر مذبحة تعرض لها المصريون في العصر الحديث، وأحدثت شرخا كبيرا في جسد الأمة لا زلنا نعاني من آثاره حتى الآن، في لحظة فارقة كان لها ما بعدها.

امتدت محاولات النظام للسيطرة على مفاصل الدولة، حتى هيمن بشكل كامل على السلطة القضائية؛ ليختل ميزان العدالة، ويصبح القضاء تابعا يدور في فلك السلطة التنفيذية، وهي خطوة خطيرة لم يجرؤ عليها رؤساء مصر السابقون، الذين حافظوا على حيز من الاستقلال وهامش من الحرية للقضاء، باستثناء بعض المحاولات التي كانت تجري على استحياء لإبعاد شخصيات قضائية بارزة عن مناصب معينة.

وكان نتيجة هذا التغول على القضاء تشكيل ما يعرف بدوائر الإرهاب، لتزداد وتيرة الأحكام التعسفية، ولا سيما أحكام الإعدام، التي شهدت زيادة حادة منذ الانقلاب على الديمقراطية في مصر، حتى وصلت إلى تنفيذ 51 حكما بالإعدام على الأقل - وفق منظمة العفو الدولية - خلال هذا العام فقط.

وصل النظام لما هو أبعد من ذلك، فاستخدم القضاء كأداة لاستئصال رموز ثورة يناير وتغييب من تبقى منهم وراء القضبان، فالثورة تشكل هاجسا لديه، وحدثا لا يزال عالقا في وجدان الشعب المصري يمكن تكراره إذا تهيأت الظروف المناسبة، وهو ما يبرر السعي المتواصل للتشويش على الثورة المصرية وتوجيه ضربات متتالية لرموزها، من أجل إخماد جذوتها المتقدة في نفوس المصريين.

ولتبرير أهمية وجودة والحصول على القبول الدولي، لا يزال النظام يعتمد تلك المعادلة الصفرية مع الإخوان المسلمين - أكبر فصيل سياسي معارض - فينعتهم بالإرهاب، ويقدم سيرته الذاتية للعالم الخارجي باعتباره متخصصا في محاربة الإرهاب، عارضا خدماته التي قد تصل إلى تنفيذ بعض المهام القذرة بالنيابة عن طرف ثالث، فلا معنى لوجوده إذا غاب طرف المعادلة الآخر، ولذلك لا يمكن توقع حدوث انفراجة في ملف المصالحة الوطنية على المدى المنظور، وقد يفسر هذا الأمر سر تجميد التقارب مع الجانب التركي مؤخرا.

وبالعودة إلى أحكام الإعدام، التي باتت واجبة التنفيذ، أكد خبراء القانون أن إيقاف تلك الأحكام الجائرة يمكن من خلال إجراءين قانونيين، أولهما إعادة التحقيق في القضية من النائب العام، والثاني عدم تصديق رئيس الجمهورية على تنفيذ الحكم، أو طلبه إعادة النظر في القضية، لكن الحالة المصرية تحديدا تحتاج إلى توافر الإرادة السياسية قبل المضي قدما في الإجراءات القانونية.

يتطلب إعادة فتح التحقيق من جديد بالقضية من قبل النائب العام ظهور أدلة جديدة، رغم أن الشبكة العنكبوتية مكتظة بتلك الأدلة، وتحتاج فقط إلى من يفتش عنها أو يطالعها على أقل تقدير. ومن هذه الأدلة ما يمكن الاستناد إليه في تبرئة أربعة ممن ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام، اعتقلوا يوم 15 يوليو 2013 (قبل فض الاعتصام بشهر تقريبا) في أحد الأكمنة الشرطية بالقاهرة، وفصلت لهم الأجهزة الأمنية قضية عرفت إعلاميا بـ"الإصبع"، وهي تعذيب مواطن في اعتصام رابعة العدوية، ثم أضيفت أسماؤهم إلى قضية فض اعتصام رابعة بعد عامين، ليحاكموا بالإعدام على أحداث لم يشهدوها أو يشاركوا بها، رغم وجودهم في حوزة الأمن طوال تلك المدة.

نشرت جريدة الأهرام في 3 أكتوبر 2013 خبرا عن نفي المجني عليه في قضية "الإصبع" اعتداء المتهمين عليه، وتأكيده بأنهم تولوا حمايته ممن قاموا بتعذيبه، وأن ضابط الواقعة هو من لفق الاتهام لهم، وأجبره على اتهامهم للأخذ بثأره لعدم تمكنه من القبض عليهم أو معرفتهم. وهذا الخبر، الذي لا يزال منشورا على صفحة الجريدة، كفيل بأن ينسف القضية برمتها، ويجعل الحكم الذي أصدره المستشار حسن فريد رئيس محكمة جنايات القاهرة هو والعدم سواء.

وبينما يرى بعض المتفائلين أن الجنرال قد يتدخل في الوقت المناسب، ليظهر في الكادر من جديد ويأخذ "اللقطة" التي اعتاد عليها، من خلال تخفيف أحكام الإعدام بعفو رئاسي، يحصل بموجبه على بعض المكاسب الخارجية ويبيض وجه نظامه بالدعاية التي ستصاحب الحدث؛ فهناك من يوقن بأن النظام ماض في سياسة استئصال المعارضة، وفي القلب منها الإخوان المسلمون، لأنها معركة وجودية بالنسبة له لا تتوقف إلا بالقضاء على الخصم، وبين هؤلاء وهؤلاء يأتي قدر الله، الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.