وائل قنديل

كان إعلام السيسي يحتفل بما قاله السيسي في المقابلة التلفزيونية (التاريخية كالعادة) مع أحد متعهدي منتجاته الدرامية "أنا معاك وجاهز بالدعم". وفي اللحظة ذاتها، كان الإعلام نفسه ينشر هذا الخبر "قرّرت الدائرة الثالثة إرهاب، المنعقدة بمجمع محاكم طرة، تجديد حبس سيف الدين، نجل رجل الأعمال صفوان ثابت، 45 يوما على ذمة القضية رقم 865 لسنة 2020 حصر أمن دولة".

ابن رجل الأعمال صفوان ثابت يتم تجديد حبسه بانتظام، مع والده، منذ أن قرّر نظام السيسي السطو على الشركة المملوكة لرجل الأعمال، والتي تعد واحدة من القلاع الصناعية المحترمة في السوق المصري والشرق الأوسط، من دون جريمة سوى أن صاحبها الذي بناها بكده وعرقه رفض الرضوخ لابتزاز السلطة المملوكية التي تستولي على ممتلكات وأموال الناس، ثم تتهمهم بدعم الإرهاب.

الأموال التي يستولي عليها السيسي من رجال صناعة ومستثمرين حقيقيين، لم يعرف تاريخهم شبهة فساد، هي ذاتها الأموال التي يجهز بها الجنرال نفسه للإنفاق على أعمال درامية تمجد إنجازاته الهائلة في سحق البشر وإهانة الوطن، والعبث بالمعتقد والعقيدة .. يجدد حبس ابن صفوان ثابت لكي ينفق على دراما السيناريست ابن دولة الفساد والاستبداد، المملوكية الحديثة.

تتزامن الأنباء عن بدء تنفيذ قرار السيسي برفع الدعم عن خبز الفقراء، ومن ثم زيادة سعره خمسة أضعاف، مع ظهوره عبر شاشة تلفزيون رجل السيراميك لكي يزف إلى الأمة نبأ استعداده اللا محدود لدعم مسلسلات وأعمال درامية تدافع عن الدولة (النظام) وتقول للمشاهد إن من يحكمه مجدّد ومصلح، مثله مثل الأنبياء والرسل.

الإبداع، حسب مفهوم السيسي، أن تكتب وتنتج أعمالًا فنية تبرز عظمة الحاكم، وتحارب كل من يعارضه أو ينتقده، وتقول للمتلقي إن هؤلاء هم أعداء الوطن، ويضرب أمثلة بالموضوعات التي ينبغي أن تكون حاضرة في الدراما الوطنية بمشروعات الإسكان التي ينفذها السيسي، وحده، والدفاع عن نظام امتحانات الثانوية العامة الجديد، والذي لم يترك بيتًا في مصر إلا وأدخل إليه حزنًا على أحزانه، ولم يترك طالبًا إلا قتل فيه روح التفوق والرغبة في التميز، وزرع فيه إحساسًا بأنه لا نجاح ولا نبوغ ولا قمة في هذا البلد إلا لخريجي الكليات العسكرية، بما يبدو معه وكأنهم ينتقمون من الذين سخروا من نظام حكم أصحاب 50% فقرروا النزول بمعظم مجاميع طلبة الثانوية إلى حدود الخمسين في المائة وما فوقها بقليل، وكأنهم يقولون: ممنوع التفوق في وطن يديره بلداء.  

من الموضوعات التي يوجه السيسي صنّاع الدراما بإنتاجها، كذلك، موضوع إعادة صياغة المعتقد الديني، الموروث، وإخضاعه للمراجعة، واصفًا هذا الأمر بتجديد الخطاب الروحي، وهو اختراع جديد يعود به السيسي إلى موضوعه المفضّل، وثأره القديم مع الأزهر وشيخه، والذي يعود إلى سبع سنوات مضت، عندما افتعل السيسي موضوع تجديد الخطاب الديني، وراح يهرف به وفيه، لكن شيخ الأزهر لم يتفاعل مع هذا العبث، وأظهر موقفًا جعل الزعيم المجدّد يسحب بضاعته من السوق.

يقول الجنرال للسيناريست: "لو فيه كتاب موهوبين زي حضرتك وآخرين أنا ما اعرفهمش، تصدوا لده (لهذا وكتبوا) أنا بقول من دلوقتي أن دعمي لهذا الإبداع سيكون ضخم جداً، وأنا مجهز له كويس". وتابع: "الدعم ده مش الدعم الثاني" (يقصد دعم الخبز).

مستوى فهم السيسي للفن والإبداع متوقفٌ عند حملات الدعاية والتوعية التي كان تقوم بها وزارة الصحة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، عبر التلفزيون والإذاعة للتحذير من البلهارسيا وترويج تنظيم النسل، عن طريق إعلانات درامية يقوم بها كوميديانات مثل الراحلين محمد رضا وعبد السلام محمد، وتغنيها المطربة الشعبية فاطمة عيد.

الفارق الوحيد أن منتجي هذه الأعمال لم يكونوا يطرحونها بوصفها الفن الدرامي كما يجب، أو الإبداع السينمائي كما ينبغي، بل كانوا محترمين وأخلاقيين فيضعون تنويهًا بأن هذه إعلانات ترويجية خدمة للمجتمع. أما مع دولة عبد الفتاح السيسي، صار ذلك هو التعريف الوحيد المسموح به للفن والإبداع، أن تكتب وتنتج من أجل تجميل السلطة التي تأمرك بالكتابة وتنفق على إنتاجك بسخاء، أن تقدّم أعمالًا هي محض معالجات درامية فقيرة وبائسة لما يثرثر به صاحب السلطة في خطبه ومداخلاته وتصريحاته.

هذا المفهوم الفاسد للفن يصبح ملائمًا تمامًا لمرحلةٍ تتسم بتسييد مفهوم فاسد للوطنية، وصياغة منحرفة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومن ثم لم يعد مسموحًا بأن يكون الإبداع عملية تمرّد على السائد والتقليدي، وسعي دؤوب نحو التغيير، ينطلق من رغبةٍ لا تخمد في التحرّر والانعتاق من كل أشكال الاستبداد.

الفن الحقيقي هو فعل مقاومة وثورة وتمرّد، وتلك مفاهيم صارت من المحرّمات والممنوعات في زمن يسحق فيه الإنسان وتهان الأوطان، وتصبح الدراما مجرّد أداة من أدوات القمع وقتل الحريات، فلا عجب أن يكون الزعيم هو المؤلف والمنتج والمخرج أيضًا.