الانحراف عن الغاية:

الانحراف عن الغاية هو أخطر الانحرافات وأشدها معوقاً للتربية؛ ولذلك لابد أن يعرف كل مربٍ أن الغاية على طريق الدعوة هو الله سبحانه، والبعد عن هذه الغاية أو الانحراف عنها، يعني أن يقصد غير الله، ومعلوم أن الانحراف عن هذه الغاية، ولو كان بسيطاً، يعرض المنهج التربوي لخلل خطير.

فالرياء، والغرور، والكبر، والتعالي، وحب الزعامة، وحب الظهور، والتطلع للصدارة، إلى غير ذلك من الاهتمامات الدنيوية الهابطة، هي من أمراض القلوب التي تنحرف بصاحبها عن الغاية، فتفسد الأعمال وتحبطها لفساد النية والإخلاص.

وليس بالضرورة أن يكون الانحراف عن الغاية يعني التوجه إلى الأغراض الدنيوية، ولكن مجرد وجود أي قدر من الانحراف، سواء كان في التصور أو العمل، يعوق منهج التربية الصحيح.

فالذين يجعلون غايتهم دقة الهياكل التنظيمية، والاستراتيجيات التخطيطية، أو يجعلون غايتهم الحضارة المادية، والعلوم التكنولوجية –هذا كله أمر مطلوب مرغوب، ولكنها ليست الغاية، إنما هي وسائل ونتائج وبقدر الأخذ بالأسباب، وإخلاص النيات يؤجر المسلم على عمله ونيته فقد يحظى بمنازل الشهداء وهو في بيته (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون) [التوبة: 92].

بمثل هذه الروح انتصر المسلمون، وبمثل هذه الروح عزت كلمتهم، فننظر أين نحن من هؤلاء  (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) [التوبة: 112] فأين أرواحنا من تلك العصبة التي كانت غايتها الله، فالله غايتنا فيما نقول وفيما نفعل، وهي مأجورة حققت الثمرة المرجوة فقطفتها، أو وضعت البذرة وجناها غيرها ممن يواصلون الطريق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث الذي رواه عبد الله بن جابر بن عبد الله الأنصاري –رضي الله عنهما- قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض- وفي رواية- إلا شركوكم في الأجر".

ولقد تكلم صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر العظيم يطمئن نفوس الصحابة على إخوانهم المتخلفين لعذر، ينسج المودة في القلوب، ويربط ما بين النفوس، فالكل في ميدان نصرة الإسلام جسد واحد، فهؤلاء الماضون إلى تبوك غزاة مجاهدين لهم أجرهم في تحمل الطريق، وفراق الأهل والوطن، والمضي لبيع الأنفس رخيصة في سبيل الله.

أولئك الذين أقعدهم عذر المرض أجساداً، وحركهم صدق الإيمان قلوباً، تتحرك للجهاد وتتوثب للقاء الأعداء، جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شركاء في الأجر والمثوبة بصدق نياتهم، وضمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جيش المجاهدين بأرواحهم وقال: "إلا وهم معنا" فإن الله ينظر إلى القلوب التي تقفز بحبها، وتطير نحو الخير أنّى كانت، وتتحرك في مواطن الصدق في كل مجال، والمعول دائماً على ما في القلوب .. لأن غاية هؤلاء وهؤلاء "الله".

إذا انحرفت الغاية، وأصبحت حضارة تقام، وخطة لابد لها من نجاح وأصبح التقييم بنتائج الأعمال بصرف النظر عن الأحوال والأخلاق، وأصبح النظر إلى الأجر من الله بنتائج الأعمال، فذلك بعد عن الغاية، أما حين تكون الغاية الله فإن الله يقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) [الزلزلة: 7، 8] فالأجر على الذرة لأن الغاية الله.

لذلك حين نقدر قيمة الرجال بأعمالهم، بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن الغاية، فإننا لن نقدر الرجال قدرهم، ونبخس الناس أعمالهم ونطفف الكيل، فتصاب المسيرة بالمعوقات التي تعوقها بمثل هذه المفاهيم، فإذا صوبنا الغاية (بنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) [البقرة: 286] اعترفنا لغيرنا بخطئه، فأعناه على تصويبه بتوفيق الله ورددنا جميعاً بعد أن يوفقنا ربنا  (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) [آل عمران: 53].

فقد ينجح المسلم في تنفيذ خطة، ويسقط في امتحان شدة، أو هوى في نفسه، ومن أمراض القلب مرض الغرور الذي يحبط الأعمال، وإن كانت دقيقة، ويفسد الخطط ولو كانت محيطة، وذلك حين يظن المسلم أنه متميز على غيره بخبرة وذكاء وحسن تقدير للأمور، ومعرفة بفنون السياسة، وأساليبها والاستراتيجيات وتخطيطها، وكيفية المناورة مع الأعداء وأساليبها. ويتعالى على إخوانه، ويبخسهم أشياءهم ولو كانوا أهل سبق في الدعوة، فيقسمهم إلى قسمين، قسم صاحب رأي وعقل راجح، وهؤلاء في المقدمة، وقسم بادي الرأي أراذل، لا دخل لهم بتخطيط وليس لهم في الشورى نصيب، ورضوان الله على الصحابي المجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لصاحبه: "والله لا أعرف بعد الألف عدّاً .. " وهو في نفس الوقت أخ للذي قال "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله" وأخ لكل عابد محنك، وكل مخطط دقيق.

إن أمثال هؤلاء لو تحقق خير للدعوة على أيديهم يرجعونه إلى مقدرتهم وعبقريتهم، وينسون فضل الله وعونه وتوفيقه (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء) [النور: 21] إن منطق هؤلاء منطق من قال حين نظر إلى الحضارة الغربية: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم) [القصص: 79] ثم قارن بينه وبين إخوانه فشعر بسعة أفقه، وحسن تقدير فقال: (إنما أوتيته على علم عندي) [القصص: 78].

إن هؤلاء في حاجة إلى مراجعة الإخلاص في قلوبهم، وتحديد الغاية من وجودهم، وصدق الشهيد سيد قطب حين قال: "المرة بعد المرة يصاب بعض أفراد الجماعة بنزوات، وفي كل مرة يسقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، وقد يمسك العدو بفرع من الشجرة ويظن أنه بجذب هذا الفرع سيقتلع معه الشجرة كلها، حتى إذا آن الأوان، وجذب الفرع خرج في يده كالحطبة الجافة لا ماء ولا حياة وبقيت الشجرة".

فلو كانت الغاية الله لاستوى السلوك، ولصح العمل، ولتحقق بإذن الله بهذه القلوب التي اطلع عليها مولاها فأنزل السكينة عليها، وأثابها فتحاً قريباً، فخرت ساجدة لله، مستغفرة من ذنبها حين النصر  (إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) [النصر: 1-3] فإذا تحقق النصر فالغاية الله.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات-  للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.