يعلمنا الإسلام- فى القرآن والسنة- كل شئ، يعلمنا كل ما نحتاجه، لنحيا حياة طيبة، ولنموت الموتة الطيبة، ولتكون آخرتنا خيرا لنا من الأولى. يعلمنا مبادئ الحياة، وأصول النجاة، وأمهات القيم والأخلاق، وتطبيقات ذلك كله، فالعاقل لا غنى له عن كتاب ربه، يطالعه، يتدبره، يستهديه، وينفذ ما فيه، وكذلك يفعل بسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم. وحينها يكون قد سلك طريق النجاة والفوز المبين، {فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى}

الإنسان ذلك المخلوق العجيب، آية الله الكبرى، ودليل عظمته وقدرته وإبداعه، تتنوع حاجاته، وتختلف اختلافات كثيرة، وتتداخل مع بعضها البعض، بل يختلف ترتيب أولوياتها حسب الظرف، وحسب المكان والزمان، وحسب الإنسان نفسه، بكل تفاصيله المتناثرة المتكاثرة، ما علمنا منها وما لم نعلم. فمنها ما هو مادى صرف، ومنها ما هو معنوى صرف، ومنها ما هو مشترك يجمع بينهما.

وفي أحايين كثيرة- بل الغالب أن تتداخل هذه الاحتياجات، ولعل ذلك مرجعه لطبيعة الإنسان المتراكبة المعقدة، وهنا نلمس رعاية القرآن لمثل هذه الجوانب في شخصية الإنسان، وذلك في مثل قوله- سبحانه- {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (٢٦٣- البقرة). فالآية جاءت في سياق الحديث عن الإنفاق في سبيل الله، وهي آية واحدة من عشرين آية كريمة في موضع واحد من سورة البقرة، تتحدث عن هذه القضية، متضمنة آيات التحذير من الربا، 

وآيتنا هنا- {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} - تعرض حقائق نفسية عميقة تتعلق بالغنى والفقير كليهما، وتبين شروطًا ربانية أولى بالرعاية، وتذكر بحقائق إيمانية كبرى مؤثرة فى القضية محل الكلام.

أما الحقائق النفسية فمنها ما يتعلق بالفقير، ومنها ما يتعلق بالغنى، أما الفقير فحاجته لصدقة الغني ظاهرة، فهو يحتاج إلى عطائه المادى المتمثل في متاع الدنيا الذى يفتقده، من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ومسكنٍ ودواء، وغير ذلك مما يحتاجه الناس، أو في مالٍ يمثل القوة الشرائية اللازمة لتملك ذلك كله، لكن حاجة الفقير إلى التقدير والاحترام، وإلى التقبل والاحترام، وإلى العفو عنه، وعن سلوكه وعن طريقته التى ربما تصبغها حاجته وألمه بما لا يحب الغنى، فقد لا تكون الكلمات أفضل الكلمات، ولا النظرات، ولا الإيحاءات، كل ذلك قد يخرجه ألم الحاجة عن حدود اللياقة، أو شرائط التهذيب، وعندها يحتاج الفقير إلى التفهم والتقبل، قبل حاجته للعطاء المادى.

وحين يأخذ الفقير من الغني صدقته المادية مغموسة بأنفاس الضيق، أو نظرات الغضب، أو تلميحات الاستهجان، يكون أثرها على الفقير خطيرًا، نعم، ربما تسد هذه الصدقات شيئًا مما ينقصه، لكنها تهدم في نفسه وعقله وقلبه حصون الإنسان المتبقية فيه، فلا تزيده الصدقة إلا عداوة للغني والأغنياء، والمجتمع ونظامه، بل ربما يمس هذا الإيذاء عقيدته في نفسه، وفي الله، وفي الكون والحياة.

إن الفقير إنسان كامل الإنسانية، يتمتع بكل الحقوق التى يتمتع بها الغني، فحينما يأخذ بعض حقه بهذه المهانة فهو الظلم في أبشع صوره، وقد يترتب عليه من الدمار النفسى والمادى للأفراد جميعهم، والمجتمعات، والمؤسسات والدول، والحضارات القائمة، ما لا يعلمه إلا الله.

أما تدميرها للغني فإنه ظاهر بين، ذلك أن الصدقة طاعة كريمة يحبها الله، ويحض عليها في القرآن والسنة، ويجزل عليها العطاء، فعلى المؤمن الذى وسع الله له في رزقه، ووهب له القدرة على العطاء، عليه أن يعرف فضل الله عليه، بل عليه أن يرى فضل الفقير عليه، فهو الذى يحمل له الثواب والأجر العظيم المدخر عند الله، ولذلك مدح بعضهم كرم الغنى وبشاشته عند العطاء فقال: 

تراه إذا ما جئته متهللا    كأنك تعطيه الذى أنت سائله.

أما الغنى الذى يعطي من ماله بغطرسةٍ وتأففٍ، ومنٍ وتفضلٍ وتكبرٍ على الناس؛ فصدقته أقرب إلى المعصية والله أعلم، إن الصدقة بهذه الصورة القبيحة تدمر ما في الغني من بقايا الإنسان، وبقايا الإيمان، ففيها جحد فضل الله عليه، وفيها كفر النعمة، بدل شكرها، وفيها تكبرٌ وإعجابٌ بالنفس، وفرح وبطر بمتاع الدنيا. 

ولذلك كان من عظيم حكمة الله- سبحانه- أن يكون تذييل الآية الكريمة بتذكير الأغنياء بأن الله غني حليم؛ حتى تصح عقيدتهم من ناحية، وتنشط هممهم ليتصفوا بصفات الله العلية، فهو الغني، وكل ما فى أيديهم من الله- سبحانه- ليس لهم فى ذلك فضل ولا قدرة، لوشاء جعلهم هم الفقراء الذين ينتظرون العطاء، لكنه شاء لهم ما يسرهم، وأعطاهم ما يجلب لهم التقدير والاحترام، وما يترتب عليه احتياج بعض عباد الله لهم. ثم هو الحليم، الذى لا يعاجل الناس على شرهم، ولا يعامل الناس بأخلاقهم، ومن هنا وجب على المؤمن الغني أن يجمع بين الصفتين الكريمتين، فالحلم يجمع الإحسان إلى التروي إلى البشاشة والسماحة والتغاضى والتغافل و غيرها من خصال الخير الكثير، ثم هو سبحانه يقرن بين صفتى الغِنَى والحلم، حتى يعلم الإنسان ضرورة المزج بينهما، فإن أعطاك الله الغنى، من غير فضل منك، ولا قدرة ولا حيلة، فقد وجب عليك أن تتصف بالحلم، وتسعى للتخلق به، وتتمسك به، ومن عجب أن يضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المثال على اكتساب الأخلاق والمهارات، فيقول: {إنما الحلم بالتحلم} فلا عذر.