والله يحب الصابرين

ما أجمل أن تقرأ القرآن الكريم! وما أجمل أن تتصل به، ما أجمل أن تغوص فى عالمه، تطلب خيره وهدايته، تستضئ بنوره، وتتخذه هاديًا ومعلمًا، يحدد لك الطريق، ويعلمك، يصوب لك الخطأ، ويقوم لك المعوج، فلذلك أنزله ربك. واليوم نحيا مع هذه الآية الكريمة، من سورة آل عمران، وقد استوقفنى فيها ذكر الصابرين، {والله يحب الصابرين} استوقفنى صفات الصابرين، وحقيقة الصبر المفهوم منها. اقرأها! استمع إليها ممن تحب من القراء! لا تحرم نفسك لذة التفكر فيها، وتدبرها!

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (١٤٦) وما أجمل أن نستمتع بجولة فى تفسيرها، أخذناها من تفسير الطبرى- رحمه الله- بتصرف كبير.

 {وكأين من نبى} بمعنى كم من نبى، {قاتل} قُرئت على حذف الألف فيكون قُتِل للنبي وحده، فالمعنى وكأين من نبي قُتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله، أو أن يكون قُتِل للربيين، فما وهن من بقي منهم، وعلى إثبات الألف يكون المعنى أن القوم قاتلوا، فما وهنوا.

وقد عاتب الله- سبحانه- بهذه الآية والآيات التي قبلها من قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} عاتب الذين انهزموا يوم أحُد، وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح: (إن محمدًا قد قُتل)، فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال، فقال: أفئن مات محمد أو قتل، أيها المؤمنون، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم، وقال لهم: هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم، من المضي على منهاج نبيهم، والقتال على دينه أعداءَ دين الله، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم، ولم تهنوا ولم تضعفوا، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم؟ 

والربيون هم الذين يعبدون الرَّبَّ، أو هم العلماء، أو الألوف، أو الجماعات الكثيرة، وقال آخرون: الربيون الأتباع، فالربانيون الولاة، والربيون الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه- صلى الله عليه وسلم.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله، ولا لقتل من قُتل منهم، ما عجزوا عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم، وما ضعفوا، وما استكانوا، يعني وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر الله وأمر نبيهم، وطاعة لله واتباعًا لتنـزيله ووحيه، {والله يحب الصابرين} والله يحب هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته وطاعة رسوله في جهاد عدوه، لا مَنْ فشل ففرَّ عن عدوه، ولا من انقلب على عقبيه فذلّ لعدوه لأنْ قُتِل نبيه أو مات، ولا مَن دخله وهن عن عدوه، وضعفٌ لفقد نبيه. 

{وما استكانوا} ما ذلُّوا حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ليس لهم أن يعلونا)، أو ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله. فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا، لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر، {والله يحب الصابرين}. انتهى.

نعم وذلك هو الصبر، وهذا المعنى الجميل الكير للصبر هو الذى شدني في هذه الآية، فصورة الصبر- الذى عهدتها- صورة يسيطر عليها السكون لا الحركة، صورة التقبل لا الرفض، صورة الاستسلام لا الثورة. لكن هذه الآية تصحح التصورات، وتبني في النفوس عالمًا ربانيًا، عالمًا له خصوصيته، المستمدة من منهج الإسلام، عمادها وأساسها اكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم.

والصبر في الإسلام ركن كبير في الحياة، وقد وعد الله الصابرين أنهم يوفون أجورهم بغير حساب، ويا لها من دعوة ربانية كريمة، لا يستطيع عاقلٌ تجاهلها، ويا له من إغراء كبير، أن تكون من الصابرين، وأن تلقى ذلك الجزاء فى الآخرة، {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، لذلك كان من المهم جدًا والضروري أن تفهم معنى الصبر، وأن تعرف حدوده، وأنواعه.

قد يكون الصبر في موقف من المواقف رضًا جميلًا بقدر من أقدار الله الشديدة على النفوس، وقد يكون تعايشًا بلا تضجر ولا شكوى مع ظروف صعبة. لكن صبر هذه الآية- إن صح القول- هو صبر فاعل كل الفعل، مؤثر أعظم التأثير، هو صبر البسالة والتحدى، صبر المقاومة لعوامل الانهزام والانسحاب، صبر الثبات فى مواجهة أعتى المحن، صبر مواصلة الطريق على ما فيه من أهوال مرعبة، وعقبات مهلكة، صبر الأنبياء ومن معهم من الربيين، ولئن كانت أنواع الصبر المتقدمة من مثل الصبر على الأقدار والبلاءات الفردية في صحة ومال وسوء عشرة ونحوه- إن كان هذا الصبر ضروريا لاستمرار الحياة وممدوحًا صاحبه، وممنوحًا أعظم الأجر من ربه الكريم، فإن ذلك الصنف من الصبر المذكور في هذه الآية، هو الذى يبني الأمم، ويحفظ للدين بقاءه. ذلك النوع من الصبر هو الذى يهدم صروح الباطل، وتفشل على أقدامه كل خططهم، ويخسرون على أبوابه كل ما أنفقوا من أموالهم وأعمارهم وجهودهم ليصدوا عن سبيل الله، ذلك الصبر هو الذى يصمن للحق استمراريةً ووجودًا، فهو الذي يحفظ راية الحق مرفوعةً رغم كل شئ، وهو الذي يضمن للأجيال مكاناً تحت سقف الحق، وميدانًا يواصلون به الطريق إلى المجد، ذلك الصبر هو الحياة، هو الدين، هو الحق، هو الجهاد. ولك أن تتصور جزاء من وفقه الله إليه من ربه الكريم!