يوم التغابن

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

التغابن من أسماء يوم القيامة، ومن الكلمات القرآنية التي تكفي معرفتها والعمل بها لإصلاح الكثير، وربما لمثل هذا السبب جعل الله- سبحانه- في القرآن سورة بهذا الاسم (التغابن) حثًا لنا على الانتباه، والتعلم، والفهم الصحيح، فما أحوجنا لمثل هذا ! 

يدور معنى التغابن حول المخادعة والغفلة، قال الإمام الفيومي رحمه الله: "غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، مِثْلُ غَلَبَهُ فَانْغَبَنَ، وَغَبَنَهُ أَيْ نَقَصَهُ، وَغُبِنَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ مَغْبُونٌ أَيْ مَنْقُوصٌ فِي الثَّمَنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَغَبِنَ رَأْيَهُ غَبَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ قَلَّتْ فِطْنَتُهُ وَذَكَاؤُهُ.." وقال الشنقيطي: الغبن الشعور بالنقص. 

ومن ذلك سمي يوم القيامة: (يوم التغابن)؛ لما يظهر فيه من خسران أهل الكفر والضلال، حيث باعوا آخرتهم، واشتروا بها دنياهم؛ فظهر خسرانهم، وبوار تجارتهم. قال الراغب الأصفهاني- رحمه الله-: الغَبْنُ أن تبخس صاحبك في معاملةٍ بينك وبينه، بضرب من الإخفاء، فإن كان ذلك في مال يقال: غَبَنَ فلانٌ، وإن كان في رأي يقال: غَبِنَ، وغَبِنْتُ كذا غَبَناً، إذا غفلت عنه، فعددت ذلك غَبَناً.

ويوم التَّغَابُنِ: يوم القيامة، لظهور الغَبْنِ في المبايعة المشار إليها بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} (البقرة) ، وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ..} (التوبة) وبقوله: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا} (آل عمران)، فعلموا أنّهم غُبِنُوا فيما تركوا من المبايعة، وفيما تعاطوه من ذلك جميعا. وسئل بعضهم عن يوم التَّغَابُنِ؟ فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدّنيا. وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه من أسماء يوم القيامة، عظمه، وحذره عباده .

وقال البغوي : " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ فِيهِ أَهَّلَ السموات وَالْأَرْضِ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَبْنِ وَهُوَ فَوْتُ الْحَظِّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَغْبُونِ مَنْ غُبِنَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ فَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ. انتهى من تفسير البغوي

وقال الشنقيطي: وقد بين العلماء حقيقة الغبن في هذا المقام، بأن كل إنسان له مكان في الجنة ومكان في النار، فإذا دخل أهل النار النار بقيت أماكنهم في الجنة، وإذا دخل أهل الجنة الجنة بقيت أماكنهم في النار، وهناك تكون منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة يتوارثونها عنهم، فيكون الغبن الأليم، وهو استبدال مكان في النار، بمكان في الجنة؛ ورثوا أماكن الآخرين الذين ذهبوا إلى النار" انتهى من "أضواء البيان" 

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن معنى التغابن، فأجاب- رحمه الله تعالى-: التغابن هو الغلبة بالغبن، وقد ذكر الله- عز وجل- في هذه السورة أن يوم التغابن حقيقة هو يوم القيامة، قال الله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) فالتغابن الحقيقي هو التغابن في الآخرة حيث يكون فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، أما التغابن في الدنيا فليس بشيء بالنسبة للتغابن في الآخرة، ولهذا قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 

ونفصل قليلًا مع القرطبى- رحمه الله- بالتصرف المعتاد تسهيلًا واختصارًا، فيقول فى تفسيره: والله يعاقبكم يوم يجمعكم، والغبن النقص، يقال: غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض .وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته، وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي، ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ أي يوم القيامة.

وسمى يوم القيامة يوم التغابن; لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار، أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة; فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، يقال: غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك، وكذا أهل الجنة وأهل النار; على ما يأتي بيانه.
قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام، قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته، فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها، قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع; كما قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} (البقرة) ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضا أنهم غبنوا; وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا.
وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقا للجنة وفريقا للنار، ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار، فقد يسبق الخذلان على العبد فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول; فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن.
وقد يقع التغابن في غير ذلك، ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته، وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف، رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به، ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيرا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه; فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي.

الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين; إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع، ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل ، أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا; لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين، إما برد في بعض الأحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى، 
فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا.

{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فاحرص على ما ينفعك!