فتن وابتلاءات :

ورجل العقيدة في مجال الدعوة يتعرض إلى فتن وابتلاءات، وإلى ضغوط وإغراءات، يمتحن بها تجرده لدعوته بأن يتمسك بها، ويظل ولاؤه لها، أو أن يتخلى عنها مؤثرًا غيرها عليها، والآية الكريمة التي أوردها الإمام الشهيد عندما تحدث عن التجرد تضرب لنا المثل بسيدنا إبراهيم عليه السلام ومن معه كيف تبرءواْ من قومهم وأصنامهم وفيهم الآباء والأبناء والعشيرة.

وكذا في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-كان ولاء المسلمين لدينهم، ولو أدى إلى مفاصلة آبائهم، أو أبنائهم، أو عشيرتهم، وأموالهم وديارهم.

وعلى طريق الدعوة في عصرنا هذا تعرض الإخوان إلى إيذاء وسجن وتعذيب وقتل، وإلى ضغوط شتى لصرفهم عن دعوتهم وعن ولائهم لجماعتهم وقيادتهم، كأن يطلب منهم وهم في السجون إرسال برقيات تأييد لظالمهم ومعذبهم، ويضمنونها تخليًا عن الجماعة مقابل الإفراج عنهم وعدم قضاء عقوبتهم، ورغم ذلك لم يستجب لتلك الضغوط إلا قلة قليلة، أما الغالبية فقد ظلت محافظة على تمسكها، وولائها لدعوتها حتى أن البعض منهم مكث في السجن عشرين سنة متصلة دون أن تلين لهم قناة، ودون أن يهتز تجردهم لدعوتهم وولائهم لقيادتهم.

• وفيًا لعهده... ثابتًا على الطريق... منظمًا في شئونه

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب:23،24).

هذه الدرجة العالية من بين المؤمنين بسبب صدقهم ووفائهم لما عاهدواْ الله عليه دون تبديل أو تغيير، ويقابلها النفاق الذي من آياته خلف الوعد والعهد.

وعلى طريق الدعوة يتعرض سالكه إلى فتن ومحن وابتلاءات، تحتاج منه إلى الإيمان الصادق والعزيمة القوية، والجهاد التضحية السخية.

وما أحوجنا إلى التذكير بأقوال الشهيد حول طريق الدعوة وما يحتاج من إعداد النفوس وبناء الرجال.

يقول الإمام الشهيد:(الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير وتريد أن تبني حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناء، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب، في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدواْ لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبواْ على ما يعترضهم من مصاعب).

ثم يقول: (وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات، أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد جهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى)، (وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات، والإقدام عند المُلمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها).(من رسالة: هل نحن قوم عمليون؟).

هكذا نرى أن الإمام الشهيد حينما حدد الهدف العظيم الذي أملته طبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية بعد إسقاط الدولة والخلافة، فأنشأ جماعة الإخوان المسلمين لإعادة الدولة والخلافة، وعلم أن الطريق طويل وشاق، وأن هذا الهدف لابد له من العمل الجماعي المنظم، ولابد له من إعداد الأفراد بالتربية، كما وضع النظم واللوائح التي تنظم العمل والشروط اللازمة والضمانات التي تساعد على استمرار الجماعة ونموها وعدم انحرافها وكانت هذه الضمانات هي أركان البيعة؛ ليكون الإخوة حراسًا أمناء عليها من أي تبديل أو تغيير وفاء لبيعتهم.

لذلك لزم لرجل العقيدة على طريق الدعوة أن يكون وفيًا لعهده مبصرًا لطريقه عالمًا بما فيه من عقبات ومحن وما يحتاجه من إخلاص وتضحية وجهاد وثقة وثبات، وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:10).
وآيات القرآن التي تحث المؤمنين على الوفاء بالعهود وعدم نقضها كثيرة نذكر منها قوله تعالى في أول سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة:1)، ﴿أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ (الرعد:20،19).

وقوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل:91).

فالوفاء بالعهد لازم لضمان وحدة الفهم الذي يجمع الكلمة ويوحد الصف، وضمان لتوفر الإخلاص وللجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ولمواصلة السير في تضحية وثبات مع توفر الأخوة والثقة.

وفي السيرة العطرة صور طيبة لمن صدقواْ ما عاهدواْ الله عليه، فصدقهم الله ونصرهم على أعدائهم.

*والثبات على طريق الدعوة من المقومات الأساسية لرجل العقيدة، وقد قال الإمام الشهيد عندما تحدث عن الثبات ضمن أركان البيعة:(وأريد بالثبات أن يظل الأخ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته، مهما بعدت المدة، وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحسنين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23).

 

منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.