أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربي أو يمرر عليها مغناطيس.. ماذا يحدث فى كيانها؟ يحدث – كما يقول علم الفيزياء – أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين، فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل، وتصبح طاقة محركة بعد أن كانت ساكنة لا تتحرك ولا تحرك.

أين كانت هذه الطاقة فى كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة، فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل، فلم يكن لها وجود واقعى مشهود والآن تجمعت على نسق معين، فظهرت، وعملت، وصار لها آثار مشهودة فى عالم الواقع

شبيه بذلك ما يحدث فى نفوس البشر حين تخالطها بشاشة الإسلام، حين تعرف التوحيد، حين تؤمن بلا إله إلا الله تتجمع النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها

ولكن، فلنقف لحظة لنسأل: ما الذى يحدث الشتات فى النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بلا رعاية ولا عناية ولا توجيه؟ حين لا يقوم الإنسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه : ((قد أفلح من زكاها() وقد خاب من دساها))(الشمس : 9-1.)

يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى ويحدث من ضغط الشهوات.. ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد فى الحياة .. تلك – على الأقل – ثلاثة أسباب رئيسية تحدث الشتات فى النفوس، فيجئ الإيمان فيجليها، فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها، وتصبح طاقة هائلة تتحرك وتحرك

فأما إنسان الجاهلية العربية، فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالأصنام، وبعضها خفي، كالقبيلة وعرف الآباء والأجداد

فأما الأصنام فالحديث عنها مستفيض، حتى ليحسب الإنسان لأول وهلة أنها وحدها كانت هي الآلهة المعبودة من دون الله في الجاهلية العربية، ولكن الذى ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون الله، فانظر إلى الشاعر الذى يقول :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

فما عبادة الاتباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها – على علم بغوايتها- لأنها فى حسه رب معبود، لا تجوز مخالفته فى الرشد ولا فى الغى!

وكان عرف الآباء والأجداد رباً معبوداً من دون الله: ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))(البقرة : 17.)

عرف الآباء والأجداد، الذى يجعل أبا طالب يحجم عن الإسلام – على كل حبه لابن أخيه (صلى الله عليه وسلم)، وكل حدبه ورعايته، وكل حمايته له من كفار قريش – لكى لا يقال عنه إنه خالف عرف الآباء والأجداد! فأي عبودية أشد من هذه العبودية؟

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية.. (فالمصلحة القومية) بديل من القبيلة العربية القديمة، أكبر وأخطر، وأشد استيلاء على نفوس أتباعها.. (والرأى العام العالمى) بديل من عرف الآباء والأجداد، أكبر وأخطر، وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة في كل الأرض، بينما هو صناعة مصنوعة على يد الشياطين الذين يحكمون الأرض، من وراء ستار أو بلا أستار.. (والتقدم) إله (والعلم) إله (والعلمانية) إله (والإنتاج) إله (والحربية الشخصية) إله وناهيك عن الشهوات!

إنها فى القديم والحديث أرباب معبودة من دون الله أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار.

إنها فى وضعها الطبيعى فى صميم الفطرة، غذاء ضرورى للنفس البشرية، لكى تقوم بنشاطها الطبيعى فى عمارة الأرض، التى هى جزء من مهمة الخلافة التى خلق الله لها الإنسان: ((وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة)) (البقرة : 3.). ((هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)) (هود : 61). ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب))(آل عمران:14)

ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد كالغذاء الجسدى سواء بسواء .. فالجسم – لكى يقوم بنشاطه الطبيعى- يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والأملاح والفيتامينات، ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب فى أى منها، يحدث خلل فى وظائف الجسم، فلا يعود يتمثل الغذاء تمثلاً صحيحاً، ولا يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعى الذى يفترض أن يبذله، وتبدأ الأمراض.. والنفس كذلك، تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية، التى يفترض أن تقوم بها فى الحياة الدنيا، ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات- وهى لكونها محببة ومزينة تغرى بالمزيد – فإن نظامها يختل، فتفسد، وتعجز عن القيام بالنشاط السوى، وإن قامت بألوان من النشاط المنحرف، كما تختل الخلية السوية حين يصيبها السرطان.. تنشط، ولكنه النشاط المؤدى إلى الدمار

وهنا نقطة ((الابتلاء)) الذى يعرض للإنسان فى حياته، والذى هو هدف من أهداف خلقه: ((إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً))(الإنسان: 2) . ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا))(الكهف:7)

فموضوع الابتلاء هو الطريقة التى يتناول بها الإنسان متاع الأرض.. هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التى قدرها الله – وهو اللطيف الخبير الذى يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحه وما يصلح له – أم يسرف ويتجاوز الحدود، فينقلب المتاع سما مهلكاً يضر أكثر مما ينفع، أو يضر ولا ينفع؟ : ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))(الملك : 14) . ((تلك حدود الله فلا تعتدوها)) (البقرة : 219). ((تلك حدود الله فلا تقربوها))(البقرة : 187)

ولقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقاً فى الشهوات، يعب منها بمقدار ما يتيح له وضعه الاجتماعى، ووضعه الاقتصادى، لا يرى فى ذلك بأساً، بل يراها فخراً وكرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل:

يقول طرفة بن العبد :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودى
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنباً
كسيد الغضا - نبهته - المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف المعمد


فيذكر الخمر والنساء والحرب، وذلك بعد أن قال قبلها :

ألا أيهذا اللائمى أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى؟

فما دام الخلود مستحيلاً – فى واقع الحياة الدنيا – ((فالمنطق)) فى الجاهلية أن يعب الإنسان من الشهوات بقدر ما يستطيع، لأنها فرصة واحدة، إن ضاعت لا تعود

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فالشهوات فى حياته هى الأصل الذى يعيش من أجله، وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل على الوسيلة التى تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوى فى ذلك من كانت شهوته هى السلطة فيعمل على اكتسابها، أو شهوته هى الملك فيعمل على اكتسابه، أو شهوته هى الجنس ولذائذ الحس، وهى التى جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً للصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والرجل والمرأة على السواء!

أما الهدف فلا هدف فى الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع المتاح: ((وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر))(الجاثية : 24). ((إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين))(المؤمنون : 37). ((فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا(29) ذلك مبلغهم من العلم))(النجم:29-3.). ((يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون))(الروم : 7)

وحين ينحصر الإنسان فى الحياة الدنيا وأهدافها القريبة – مهما بدت بعيدة – فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذى خلقه الله له، حين خلقه من قبضة من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه.. يفقد القيم العليا، التى هى القوام الحقيقى للإنسان: ((إذا قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص 71-72)

فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث، لذلك كان حفظ الأنساب والفخر والهجاء، وأخبار المعارك، والكر والفر، هى عالمه الذى يعيش فيه، ويعيش من أجله، ويقول نفيه الشعراء شعرهم، ويكون هو سمرهم فى منتدياتهم، وموضع تنافسهم فيما بينهم .. إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر فى الأموال والأولاد، وما يمارسونه من الشهوات

وأما إنسان الجاهلية المعاصرة، فهو أشد ضلالاً وانحصاراً فى الحياة الدنيا وعالم الحس، وأشد بعداً عن القيم العليا وتكاليفها، لتكالبه على المتاع الحسى، ولأن صانعى هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملاً عن كل قيمة إنسانية، ترفع الإنسان عن محيط الحيوان، لذلك تفننوا فى تزيين الأرض، وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر – أو لا تخطر – على البال

وفى الجاهلية كلها – قديمها وحديثها – حين ينحصر الناس فى الحياة الدنيا ولا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء، تبدو الحياة فى نظرهم عبثاً لا معنى له، ولا قيمة للقيم فيه، إلا بمقدار ما تخدم شهوات الإنسان ومصالحه فى عمره المحدود، وتنتاب الإنسان الحيرة التى عبر عنها الشاعر الجاهلى المعاصر (إيليا أبو ماضى) فى هذه الأبيات:

جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت !

ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمشيت!

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقى؟ لست أدرى!

ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية، لأنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة، وهو شعور ثقيل على النفس، كما يغرق الناس فى اللهو، لقتل الوقت الذى يظل فارغاً وثقيلاً، حين يفرغ الناس من صراعاتهم الهابطة ومصالحهم القريبة، ويبحثون عن هدف يملأ الفراغ فلا يجدون

فى الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب.. وفى الجاهلية المعاصرة صارت المخدرات إلى جانب الخمر، وصارت المراقص ودور اللهو ونوادى القمار.. وفى الجانب الآخر صار القلق النفسى والأمراض العصبية، والانتحار والجنون، حين لا تفلح الوسائل كلها فى رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس


تلك كلها أسباب وراء الشتات الذى يصيب النفس البشرية فى الجاهلية، والإيمان هو الذى يجمع النفس من الشتات

الإيمان معناه ابتداءً: الاعتقاد بأنه إله واحد لا إله غيره.. وأن كل الآلهة الأخرى وكل الأرباب، وكل المعبودات من دون الله، وهم لا حقيقة له، ولا وجود له إلا فى ظنون أصحابه، وهى ظنون لا تغنى من الحق شيئاً ومعناه أنه لا معبود بحق إلا الله، لأنه لا إله فى الحقيقة غيره، فكل عبادة موجهة إلى غيره فهى باطلة من أساسها، لأنها موجهة لمن لا ألوهية له فى الحقيقة ومعناه الالتزام بما جاء من عند الله، لأنه لا يستقيم فى الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده، ثم يطاع غيره فى معصيته! ومعناه فى نهاية الأمر أن الله هو المشرع، هو الذى يحدد الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والمباح وغير المباح، وهو الذى يضع الحدود التى يمارس الناس فيها متاع الحياة الدنيا، وهو الذى يضع للناس منهج الحياة، ويحدد لهم ما يعيشون له من أهداف

ومن شأن هذا الإيمان ألا يبقى سبباً من أسباب الشتات التى يتطرق بها إلى النفوس

حين يتوحد الإله المعبود تنتهى من الحس تماماً كل الآلهة المزعومة، التى تشتت النفس في اتباعها، ولكل منها مطالب، ولكل منها نزعات أو شطحات لا تلتقى في اتجاه واحد، فتتوزع النفس بينها، وكل إله منها لا يمارس ألوهيته إلا على حساب إله آخر: ((ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلما لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون))(الزمر : 29)

وحين يتوحد الإله المعبود تنضبط الشهوات في حدودها التى حددها الله، فتصبح غذاءً صالحاً للنفس، ولا تعود سماً مهلكاً، ولا هماً مقعداً مقيماً، لا يرتوى ولا يشبع، ولا يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء

وحين يتوحد الإله المعبود يتحدد الهدف الذى ينظم فى داخله كل الأهداف، وتتحدد القيم التى تحقق الأهداف وتذهب عن الحياة عبثيتها، حين يؤمن الإنسان بالبعث والنشور، والحساب والجزاء

  • * *

إذا كان هذا دور المبادئ فى نشأة القاعدة الصلبة، فلنقل كلمة سريعة عن دور المربى (صلى الله عليه وسلم)، أعظم مرب فى التاريخ، ولن نوفيه حقه (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الكلمة ولا فى كلمات وحسبه ما شهد له به ربه المنعم الوهاب: ((وإنك لعلى خلق عظيم)) (القلم : 4) ، ولكنا لا نستطيع أن تعرف على تلك القاعدة، دون أن نلم ولو إلمامة سريعة بالأثر الضخم الذى أحدثه وجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) بشخصه الكريم العظيم بين ظهرانيهم.

إن الأتباع يقبسون دائماً شيئاً من صفات قائدهم، من خلال حبهم له ومصاحبتهم إياه، وقد يكون هذا بغير وعى كامل منهم، فإن الإعجاب بشخصية القائد يدفع الأتباع تلقائياً إلى محاولة التشبه به فى بعض أعماله، وبعض أقواله، وبعض مواقفه، وبعض تصرفاته، وقد كان هذا حادثاً بالفعل من الصحابة رضوان الله عليهم، تجاه نبيهم الذى يحبونه فوق كل حب، ويوقرونه فوق كل توقير عرفه أتباع تجاه قائدهم فى التاريخ كله

سأل هرقل أبا سفيان، ولم يكن قد أسلم بعد، عن حال المؤمنين مع النبى (صلى الله عليه وسلم)، فقال، ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً

ولكن الأمر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكن مقتصراً على هذا الإعجاب الذى يؤثر فى الأتباع بغير وعى كامل منهم، إنما كان تأثراً واعياً بأمر من الله الذى آمنوا به وأسلموا وجوههم له، وبأمر من الرسول ذاته (صلى الله عليه وسلم) : ((لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))(الأحزاب: 21). ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب))(الحشر: 7). ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة:12.) ((يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم))(الأنفال: 24)

((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده)). ((صلوا كما رأيتمونى أصلى))((خذوا عنى مناسككم))

ذلك أنه ليس مجرد قائد يقود جماعة من الناس، إنما هى نبى يبلغ عن ربه، ويبين للناس ما نزل إليهم، فطاعته أمر، وطاعته عبادة لله، ((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً))(النساء : 59). ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))(النساء: 8.)

لذلك اجتمع للرسول (صلى الله عليه وسلم) من أتباعه ذلك الحب الفائق الذى يفوق كل حب، والالتزام بالطاعة التى هى عبادة الله، فاجتمع له من التأثير فى نفوس أصحابه، رضوان الله عليهم، ما لم يكن له مثيل فى التاريخ تأثير الشخصية الفذة، وتأثير المبادئ الفذة كلاهما فى آن

فأما المبادئ فقد تحدثنا عنها إجمالاً فى الفقرة السابقة، وسنعود إليها بالتفصيل فيما بعد

أما شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد يجزئنا فى هذا المقام أن نقول: إنها شخصية جامعة، جمعت ما تفرق فى أشخاص الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم: روحانية عيسى، وصبر نوح، وحزم موسى، ورقة إبراهيم عليهم السلام.. إلى خصال تفرد بها (صلى الله عليه وسلم) ، لم تتح لنبى قبله.. فاجتمع فيه شخصية القائد السياسى الذى يجمع أمة من شتات، ويبوئها مكاناً عالياً بين الأمم.. وشخصية القائد العسكرى، الذى يربى جيشاً فذاً فى شجاعته وقوة بأسه، ويخوض به أنبل المعارك وشخصية المربى الذى لا يألوا جهداً فى تربية أتباعه على القمة من الأخلاق الفاضلة.. وشخصية المجاهد الذى لا يفتر عن الجهاد وشخصية الزوج المثالى والأب الرحيم الودود وكل ذلك على توازن فى الشخصية، لا يطغى منها جانب على جانب، ولا ينشط جانب على حساب جانب.. لا جرم يكون تأثيره فى أتباعه أعظم تأثير أحدثه نبى فى قومه، وأعظم تأثير أحدثه بشر فى التاريخ


وكما أجملنا الحديث عن المبادئ التى أنشأت القاعدة التى أقامها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعن شخصية المربى الأعظم الذى ربى تلك القاعدة، نقول كذلك كملمة مجملة عن نوعية الرجال الذين قامت القاعدة على أكتافهم :

((الله أعلم حيث يجعل رسالته)) (الأنعام :124)

إن اختيار الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم)، وللأرض التى تنطلق منها الرسالة، وللقوم الذين يتلقون الرسالة أول مرة، وراءه ولا شك حكمة بالغة، فقد اختار الله لرسالته الخاتمة أعظم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، واختار أرضاً يعلم الله أنها أنسب أرض تنطلق منها الرسالة الخاتمة.. أرض لا مطمع فيها فى ذلك الوقت، لدولة من الدول العظمى التى تحكم الأرض يومئذ، لأنها صحراء جرداء، فتنشأ الجماعة المؤمنة وتتمكن، دون أن تتدخل سلطة خارجية لكبتها أو إضعافها، أو تعويقها عن مهمتها، حتى إذا تنبهت الدول ((العظمى)) لخطرها،ن وأرادت أن تتصدى لها، كانت قد أنشأت دولتها، وأنشأت قوتها الضاربة التى ترهب بها الأعداء

أما البشر فى هذه الأرض، فقد علم الله كذلك أنهم أصلح من يحمل هذه الرسالة، وينطلق بها فى الآفاق وثنيون نعم مشركون نعم لد الخصومة نعم شديدو الجدال نعم . ولكنهم من وراء ذلك كله، أسلم فطرة من شعوب الأرض الأخرى، التى أفسدتها الحضارة الجاهلية بترفها ورخاوتها وإخلادها إلى الأرض، وانتشار المباذل فيها، كما كانت الإمبراطوريتان ((العظيمتان!)) عن يمين الجزيرة وشمالها : فارس والروم، فضلاً عن استخذاء شعوبها لسطوة الحاكم المقدس الذى تخنع له الرقاب، ويتعامل مع شعبه تعامل السيد مع العبيد، فيطغى السيد ويخضع العبيد.

لقد كانت الجاهلية العربية قد أفسدت ولا شك نفوس العرب المشركين.. ولكنه كما ثبت فى الواقع – فساد فى القشرة، لم يتوغل إلى صميم الفطرة، فما إن أزالت العقيدة الجديدة هذه القشرة الفاسدة، حتى اتصلت رأساً بعناصر الخير المذخورة فى الفطرة، فأحدثت الأعاجيب .

وفيما عدا الكفار الذين أصروا على كفرهم، وقاتلوا هذا الدين بضراوة حتى قتلوا، فإن النفوس التى استجابت، قد استجابت استجابة رائعة، لا مثيل لها فى أتباع الرسل من قبل، لسلامة فطرتهم تحت القشرة الزائفة، ولإخلاصهم العميق لهذا الدين، ولشجاعتهم واستعدادهم للبذل والفداء .

وعنصر آخر لابد من الإشارة إليه، هو استعدادهم للانتقال السريع إلى أى مكان جديد يستوطنونه فيكون وطناً لهم لا تشدهم إلى أرضهم نتلك الروابط المقعدة، التى تشد الفلاح إلى أرضه، فيحس بالغربة إذا انتقل منها بضع خطوات، وبهذه الخصلة انتشروا فى الأرض كما لم ينتشر شعب من قبل، يحملون الهدى والنور لكل البشرية

 

تحدثنا حتى الآن حديثاً مجملاً عن عوامل ثلاثة، أسهمت فى صلابة القاعدة التى أنشأها الرسول (صلى الله عليه وسلم) : عظمة المبادئ التى قامت عليها القاعدة، وعظمة المربى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلامة الفطرة لدى الذين تلقوا المبادئ العظيمة، وتأثروا بعظمة المربى. ولم نتحدث بعد عن دور التربية التى قام بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأتباعه

فالمبادئ قد توجد – وهى اليوم موجودة كما كانت يوم أنزلت من عند الله – ولكنها لا تعمل من ذات نفسها، ما لم يبذرها المربى فى نفوس أتباعه، ويستنبتها، ويتابعها بالرعاية والعناية والتوجيه. والمربى قد يوجد ولكنه لا يعطى تأثيره الكامل، حتى يعطى الجهد اللازم لعملية التربية، فالتأثر التلقائى وحده لا يكفى لتربية النفوس، ما لم يبذل المربى جهداً إيجابياً فى تعميق القيم المطلوبة، وترسيخها فى النفوس .

ولقد تحدثت فى كتاب آخر عن منهج التربية الإسلامية . ولكنا نريد هنا أن نحدد دور التربية فى إنشاء القاعدة، لأنه الموضوع الذى يواجهنا اليوم فى حركتنا المعاصرة، ونفتقده افتقاداً حاداً فى كثر من المواضع

قلنا فيما سبق إن الإيمان بلا إله إلا الله لله تأثيره العميق فى النفس البشرية، لأنه يعيد ترتيب الذرات فى داخل النفس،ن كما يفعل التيار الكهربى فى قطعة الحديد نعم، ولكن النفس الحية – برغباتها وهواتفها وأشواقها وانفعالاتها وجواذبها- لا تشبه قطعة الحديد الساكنة، التى يمكن أن تحتفظ بصورتها التى تكون عليها فترة غير قصيرة من الزمان بل إن قطعة الحديد ذاتها، وهى لا تنفعل ولا تتحرك فى داخلها لها حوافظ تحفظها من أن تتبعثر ذراتها مرة أخرى، كما كانت من قبل!

والنفس البشرية أولى – بانفعالاتها وأشواقها وجواذبها – أن تتبعثر مرة أخرى، إذا لم تقم حولها الحوافظ التى تحفظها من التبعثر، والتى تعمل على إعادة ترتيب ذراتها، كلما همت أن ينفرط نظامها من جديد

وكما أن قطعة الحديد لا تفقد كل مغنطيسيتها إذا تركت مدة بلا حوافظ، ولكن تضعف فيها المغناطيسية بالتدريج، فكذلك النفس التى آمنت، لا يضيع إيمانها كله إذا تركت طويلاً بلا حوافظ، ولكن يضعف إيمانها بالتدريج حتى يصبح إيماناً غير فاعل، وغير قادر على التماسك، حتى كأنه غير موجود فى عالم الواقع.. وهنا تبدو الحاجة الملحة إلى التربية على الإيمان، وليس مجرد الإيمان

إن النفس البشرية تعانى فى حياتها الدنيوية حركة موارة دائبة فى كيانها، هى التى تحدثها الشهوات التى ورد ذكرها فى كتاب الله المنزل: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب))(آل عمران : 14)

وقد ذكرنا من قبل أن هذه الحركة الموارة الدائبة فى داخل النفس – والتى من طبيعتها أن تدفع الإنسان إلى أعمال معينة وسلوك معين – هى نقطة الابتلاء الذى يعانيه الإنسان فى حياته الدنيا، والذى تفترق فيه نفس عن نفس، وسلوك عن سلوك : ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا))(الكهف : 7)

وقد أجملت الآية الكريمة ذكر الشهوات التى تتحرك داخل النفس وتحركها إلى أعمال معينة وسلوك معين، لأن المجال ليس مجال التفصيل. ولكن انفعالات الإنسان وأشواقه وهواتفه وجواذبه لا تكاد تحصى، ولا تكاد تنتهى، ولا تكاد تكف عن الحاح، كما قال الشاعر: ((وحاجة من عاش لا تنقضى))… ولذلك فالابتلاء قائم فى كل لحظة، والحاجة إلى التربية قائمة فى كل لحظة كذلك، حتى تستقيم النفس على الوضع المطلوب، وتتحرر من العبودية للشهوات، وتتعود على الاستقامة حتى تصبح بالنسبة لها هى الأصل، وينطبق عليها قوله تعالى : ((إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون))(فصلت:3.) .. ومع ذلك فلا عصمة للإنسان من الخطأ، ولا أمان لأحد من هواتب النفس التى توقعها فى الأخطاء، وإن كان باب التوبة مفتوحاً أمام البشر على الدوام: ((كل بنى آدم خطاء وخير الخائطين التوابون)) وهنا يظهر دور التربية، وحاجة البشرية إليها، وضرورة الاهتمام بها إلى أبعد الحدود

وليست التربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالاتها فحسب، وإن كان هذا من الأسس التى لاغنى عنها، ولا تستقيم بغيرها حياة ، ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك، ومستويات أخرى من القيم اللازمة للحياة

لقد قدر الله للإنسان فى حياته الدنيا ألواناً مختلفة من الابتلاء، بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه، وهى دوافعه ونوازعه وشهواته، وبعضها الآخر ضغوط خارج كيانه، وإن كانت تؤثر على ما فى داخل نفسه، سواء كانت ضغوطاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويدخل فى هذه الأخيرة أعراف الناس وتقاليدهم، وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمتقضياتها، وإن كان الكثير منها فى الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هى ضرورات حقيقية، أهواء يرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا : ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن))(المؤمنون:71)

ولابد لكى تستقيم الحياة على المستوى اللائق بالإنسان، الذى كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، لابد أن يقاوم الإنسان هذه الضغوط، ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان

ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد، فإنها تصبح لينة القوام، ضعيفة لا تقوى على مقاومة الضغوط، سهلة الانثناء والالتواء، فيطمع الذين استكبروا فى استخدام مزيد من الضغط، ليحصلوا من الناس على مزيد من الاستسلام، وعندئذ يظهر الفساد فى الأرض، أى يتمكن ويستشرى: ((ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس))(الروم:41) .. يستوى فى هذا ((الكسب)) طغيان من يطغى واستسلام من يستسلم، فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التى ينبغى أن تكون عليها

وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لإكساب النفس الصلابة اللازمة لها فى مواجهة الضغوط. والقيم والمبادئ هى الأحجار الصلبة التى تقى البناء النفسى من الانهيار عند أول صدمة أو الانثناء تحت الضغط، وعلى قدر التمسك الحقيقى بتلك القيم والمبادئ تكون الصلابة الحقيقية للنفس، وذلك التمسك هو الذى تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب، ولكنه لا يحدث فى النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها، لأنه بغير ذلك لا تقوى على الصلابة ولا تطيق تكاليفها: ((فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم))(الزخرف : 43) . ((والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين))(الأعراف : 17.)

ولا تنتهى الحاجة إلى التربية عند هذا الحد، ولا عند هذا المستوى من الأمور، وخاصة بالنسبة للمؤمنين، فقد اقتضت مشيئة الله ألا يكون الناس كلهم أمة واحدة : ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين(118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم))(هود : 118-119). ((هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن))(التغابن:2)

ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع فى الأرض بين المؤمنين والكفار، بين أهل الحق وأهل الباطل، لكى لا تفسد الأرض باستعلاء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين))(البقرة : 251).. ولا يعجز الله سبحانه وتعالى أن يدمر أهل الباطل ويبطل طغيانهم، وهو الذى يقول للشئ كن فيكون: ((إنما قلنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))(النحل: 4.))ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على أهل الحق، بعون الله وتأييده، وأن يكون هذا بالنسبة لأهل الحق جزءاً من الابتلاء المقدر لهم فى سنة الله، وتشريفاً لهم ورفعة فى ذات الوقت: ((ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد: 4) ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم))(الأنفال: 17)

وهذا الأمر وهو مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلاح الأرض وحفظها من الفساد هو القمة التى يصل الإنسان إليها فى الحياة الدنيا، وهو فى الوقت ذاته ذروة سنام الإسلام: ((ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قلت (والكلام لمعاذ بن جبل رضى الله عنه)، بلى يا رسول الله . قال: رأس الأمر الإسلام، وعمود الصلاة، وذروة سنامه الجهاد))

أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد. إعداد نفسى وروحى قبل الإعداد الجسمى والمادى، وهو مستوى من مستويات التربية لا يتم حتى يكون الإنسان قد مر بالمستويين السابقين، فهو فى حاجة إلى الصلابة النفسية التى ترتكز بدورها على ضبط الشهوات، وهكذا تتدرج التربية فى مستوياتها الثلاثة بدءاً بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على الانضباط، مروراً باكتساب الصلابة بترسيخ القيم العليا فى بنية النفس، وصولاً إلى الاستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه فى النفس والمال .

ثم هنالك مستوى أخير، لابد أن نشير إليه فى حديثنا عن خير القرون، خاصة جيل الصحابة رضوان الله عليهم، هو مستوى التطوع النبيل، الذى يتجاوز الواجبات والمفروضات، ويرتقى إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالوابجات والمفروضات، بغير إلزام من الله ورسوله، ولكن حباً لله ورسوله، وعبادة خالصة لله ابتغاء مرضاته، وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل الفريد الذى رباه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإن لم يخل جيل من أجيال الأمة الإسلامية من أفراد يرتفعون إلى ذلك المستوى السامق الرفيع

 

إذا اتضح لنا ذلك فقد اقتربنا من تصور الجهد الذى بذله المربى الأعظم (صلى الله عليه وسلم) للارتفاع بتلك النفوس إلى ذلك المستوى الرفيع الذى وصلت إليه فى عالم الواقع، وهو مستوى غير مسبوق فى تاريخ البشرية

وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الأداة العظمى التى استخدمها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تربية أصحابه، وهى الأداة اللازمة لكل تربية على منهج الإسلام فى أى جيل من أجيال الإسلام، وهى تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر، وممارسة الحياة فى معية الله

لا شىء يمكن أن يرتقى بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك الإيمان. إنه هو الذى يوفر الحوافظ التى تحفظ النفس من الانفلات، والهبوط مع ثقلة الشهوات، ثم يحبب إليها الارتفاع فى مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات

وعلى قدر ما يعيش الإنسان مع الله، يحبه ويخشاه، ويذكره فى سره وجهره، ويببتغى رضاه، وعلى قدر ما يعيش على ذكر من اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار، تكون قدرته على ضبط شهواته، وقدرته على تمثل القيم العليا، وقدرته على إعداد نفسه للجهاد فى سبيل الله، ورغبته كذلك فى التطوع النبيل ابتغاء مرضاة الله

وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك الأمور بالذات

فأما التعريف بالله، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته التى لا يعجزها شىء، وعلمه الذى لا يعزب عنه شىء، ورقابته التى لا تغفل عن شىء، ورحمته التى وسعت كل شىء، وجبروته الذى لا يقف أمامه شىء، فأوضح من أن يشار إليه فى كتاب الله الكريم، وهو الموضوع الأول والأكبر من موضوعات الكتاب الكريم، من حيث المساحة التى يشغلها، والتركيز المستمر عليه، وبيان مقتضياته، وهى عبادة الله وحده بلا شريك، فى الاعتقاد القلبى، وشعائر التعبد من صلاة وصيام وزكاة وحج، واستعانة واستغاثة، وذبح ونذر ودعاء، والالتزام بما جاء من عند الله من أوامر ونواه وتشريعات وتوجيهات وأحكام

وأما مشاهد القيامة، مع تنوع أساليب عرضها، وتعدد مواضع ذكرها والتذكير بها، بنعيمها وعذابها، فأمر واضح كذلك لمن يتدبر كتاب الله .. ولكن يلفت النظر فى السور المدنية خاصة الربط بين الأمرين معاً : الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، سلباً وإيجاباً، وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والأخلاق، سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))(البقرة : 62). ((وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر))(البقرة : 232). ((يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر))(البقرة : 264). ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))(النساء:59). ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))(التوبة:29). ((لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا))(الأحزاب:21). وإذا كان الربط مباشرا فى السور المدنية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فهو موجود فى السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة: ((إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون))(النحل:22) ((وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(63) والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً(64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً(65) إنها ساءت مستقراً ومقاما(66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(67) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما(68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً(69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً(7.) ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً(71) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما(72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميانا(73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما(74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً(75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاماً))(الفرقان: 63-76)

والدلالة التربوية لهذا الأمر أن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، كل قائم بذاته، ومتعمق بذاته فى أغوار النفس، ثم مرتبطين متلازمين متكاملين، هو الأداة الكبرى فى منهج التربية الإسلامية التى تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة الدؤوب .

وهذا هو الذى قام به رسول الله ، بالصورة الفذة التى لا مثيل لها فى التاريخ لقد كان عمله الدائم، فى مكة خاصة، هو تعميق الإيمان بالله، وتعميق الإيمان باليوم الآخر فى نفوس أصحابه رضوان الله عليهم، ثم الربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر فى تلك النفوس، حتى يصبح أحدهما مذكراً بالآخر تلقائياً ومؤدياً إليه: إن ذكر الإنسان بالله ذكر معه اليوم الآخر، بنعيمه وعذابه .. وإن ذكر باليوم الآخر ذكر الله سبحانه وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شىء فى الوجود وتبدو القمة التى وصل إليها فى تربية أصحابه بهذه الأداة الضخمة فى هذا الوصف الرائع لهم فى كتاب الله، بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة، وأخذوا منها بأوفى نصيب: ((إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب(19.) الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار(191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار(192) ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193) ربنا وآتنا ما عدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد))(آل عمران: 19.-194)

هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة. إن ذكر الله لحظة يحدث فى النفس آثاره، فما بال الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أى فى جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر فى نفوسهم؟‍

ومن جهة أخرى فإن ذكر الله لا يخطر فى النفس وهى هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات فتلك هى لحظات الغفلة، التى يغفل فيها الإنسان عن ذكر الله، إنما يذكر الإنسان ربه وهو متجه نحو الصعود، فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هى فى الحقيقة لحظة صعود.. فكيف بالذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم أى فى جميع أحوالهم، كم صعدوا وكم ثبتوا على الصعود؟‍ إنه شىء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته

إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه‍ لأن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل، ويحتاج إلى رفع مستمر حتى يتوازن، ويحتاج إلى رفع أكثر لكى يغلب دافع الصعود على دافع الهبوط

حقيقة إن أداة الرفع موجودة فى كيان الإنسان، فى أعماق فطرته، وهى النفخة العلوية فيه: ((إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص:71-72)

ولكن هذا لا ينفى أن هناك جهداً ينبغى أن يبذل لتدريب هذه الأداة على العمل، وهو الجهد الذى تقوم به التربية، فبينما تعمل الشهوات تلقائياً فى الكيان البشرى بطبيعة كونها محببة ومزينة للإنسان، ومثيراتها حاضرة فى ألوان المتاع التى تزخر بها الحياة الدنيا، فإن أداة الضبط التى تحبس الشهوات فى نطاق معين، لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالات العليا، مجالات القيم ومعالى الأمور التى يحبها الله هذه الأداة فى حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها، كما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشى ليقاوم ثقلة الأرض، مع أن القدرة على المشى كامنة فى كيانه على الأرض: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب(14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد(15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار(16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار))(آل عمران : 14-17)

من كتاب "كيف ندعو الناس" للأستاذ الجليل محمد قطب رحمه الله.