ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحركة وقضايا الحرية السياسية والديمقراطية

والواجب على الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة: أن تقف أبدا في وجه الحكم الفردي الدكتاتوري، والاستبداد السياسي، والطغيان على حقوق الشعوب وأن تكون دائما في صف الحرية السياسية المتمثلة في الديمقراطية الصحيحة غير الزائفة، وأن تقول بملء فيها للطغاة: لا، ثم لا. ولا تسير في ركاب دكتاتور متسلط وإن أظهر وده لها، لمصلحة موقوتة، ولمرحلة لا تطول عادة، كما هو المجرب والمعروف.

إن الحديث النبوي يقول: "إذا رأيت أمتي، تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم" فكيف بنظام حكم يقهر الناس على أن يقولوا للظالم المتجبر: ما أعدلك وما أعظمك، أيها البطل، والمنقذ، والمحرر؟!

إن القرآن أعلن حملة نارية على الطغاة المتألهين في الأرض من أمثال نمرود وفرعون وهامان وغيرهم، ولكنه ذم معهم من يتبعونهم ويدورون في فلكهم، ولهذا ذم الله قوم نوح بقوله: (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) (سورة نوح: 21)

وذم عادا قوم هود بقوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) (سورة هود: 59)

وقال عن ملأ فرعون: (فاتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد) (سورة هود: 97)

(فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين) (سورة الزخرف: 54)

والمتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية والحركة الإسلامية في العصر الحديث، يتبين له بجلاء: أن الفكرة الإسلامية، والحركة الإسلامية، والصحوة الإسلامية، لا تتفتح أزهارها، ولا تنبت بذورها، ولا تتعمق جذورها، أو تمتد فروعها إلا في جو الحرية، ومناخ الديمقراطية.

وما خرس لسانها، ولا كتمت أنفاسها، ولا اختفت أزاهيرها: إلا في مناخ القهر والاستبداد والطغيان، الذي حطم إرادة الشعوب المتشبثة بالإسلام وفرض عليها علمانيته أو اشتراكيته أو شيوعيته بالحديد والنار، بالتعذيب خفية، والشنق جهرة، بالأدوات الجهنمية التي تنهش اللحم، وتشري الدم، وتسحق العظم، وتدمر النفس!

رأينا ذلك في أقطار إسلامية متعددة في تركية، ومصر، والشام، والعراق، واليمن الجنوبي، والصومال، وشَمال إفريقية، في فترات مختلفة، تقصر أو تطول تبعا لطول عمر الدكتاتور، أو حكم الدكتاتور.

ورأينا مقابل ذلك انتعاش الدعوة والحركة والصحوة في مناخ الحرية والديمقراطية السياسية، وعقب انهيار الأنظمة الطغيانية المسلطة على رقاب العباد بالإرهاب والجبروت.

لهذا لا أتصور أن يكون موقف الحركة الإسلامية إلا مع الحرية والديمقراطية السياسية.

لقد سمح الطغاة لكل صوت أن ينطلق إلا صوت الإسلام، وأذنوا لكل تيار أن يعبر عن نفسه في صورة حزب أو هيئة سياسية إلا التيار الإسلامي، الذي هو المعبر الحقيقي والوحيد عن ضمير الأمة، وعن عقيدتها وقيمها وجوهر وجودها.

ولكن بعض الإسلاميين لازال يتحفظ على الديمقراطية، بل يتخوف من مجرد كلمة (ديمقراطية).

والذي أود قوله وتأكيده هنا: إن الإسلام ليس هو الديمقراطية، ولا الديمقراطية هي الإسلام، وما أحب أن ينسب الإسلام إلى أي مبدأ أو نظام آخر، فهو نسيج وحده في غاياته وفي مناهجه ووسائله. وما أحب أن ننقل الديمقراطية الغربية بعُجَرِها وبُجَرِها دون أن نضفي عليها من قيمنا وفكرنا، ما يجعلها جزءا من نظامنا.

ولكن الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام لكبح جماح الحكام، وهي: الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورفض الطاعة عند الأمر بمعصية، ومقاومة الكفر البواح، وتغيير المنكر بالقوة عند الاستطاعة، فهنا تبرز قوة السلطة النيابية القادرة على سحب الثقة من أية حكومة تخالف الدستور، وكذلك قوة الصحافة الحرة، والمنبر الحر، وقوى المعارضة، وصوت الجماهير.

وما تخوفَهُ البعض هنا أن الديمقراطية تجعل الشعب مصدرا للسلطات، حتى التشريعية منها، مع أن التشريع لله وحده ـ لا ينبغي أن يخاف هنا لأن المفترض أننا نتحدث عن شعب مسلم في أغلبيته، فقد رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، فلا يتصور منه أن يصدر تشريعا يخالف قطعيات الإسلام، وأصوله المحكمات.

على أن هذا التخوف يمكن أن يزال بمادة واحدة تنص على أن أي تشريع يخالف الأصول القطعية للإسلام يعتبر باطلا. فالإسلام هو دين الدولة، ومصدر المشروعية العليا لكل مؤسساتها، ولا يجوز أن يصدر قانون يخالفه لأن الفرع لا يخالف الأصل.

وينبغي أن يعلم أن إقرار مبدأ: أن التشريع أو الحاكمية لله تعالى لا يسلب الأمة سلطانها في الاجتهاد لنفسها في التقنين لحياتها وشئونها الدنيوية المتطورة.

إنما المقصود أن يكون التشريع أو التقنين في إطار النصوص المعصومة، والمقاصد الكلية للشريعة وللرسالة الإسلامية، والنصوص الملزمة قليلة جدا، ومنطقة (العفو) أو الفراغ التشريعي، جد واسعة، والنصوص نفسها من السعة والمرونة بحيث تتسع لأكثر من فهم، وأكثر من تفسير، ومن ثم تتعدد المشارب والمذاهب والآراء داخل إطار الإسلام الرحب.

وقد تتبعت بعض القوانين الصادرة حديثا في دولة قطر، فوجدتها تشتمل على عشرات المواد، تعتمد على تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، وقلما يوجد للنصوص مدخل إليها، إلا في مادة أو مادتين.

إن الخطر الأكبر على الأمة الإسلامية، وعلى الحركة الإسلامية هو حكم الفراعنة الذين يرون أن رأيهم هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، والرشاد الذي لا يجامع الغي، على طريقة فرعون مصر (ما رأيكم إلا ما رأى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (سورة غافر: 29). وكل رأي معارض مرفوض بل متهم، على طريقة (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (سورة غافر: 26).