الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد....

إن من أجلّ نعم الله على عباده السائرين على طريق دعوته، نعمة الإيمان، ونعمة الحب في الله، وهما نعمتان حرص الإمام حسن البنا على تربية أبناء الدعوة عليهما، انطلاقا من قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) آل عمران 103. وقوله تعالى: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.) الأنفال 62: 63

ولقد عُرف عن الإمام حسن البنا حرصه الدائم أن يفتتح توجيهاته وكلماته للإخوان، بالتذكير بهاتين النعمتين، والتأكيد على هذين الميثاقين والعقدين (عقد الإيمان – عقد الأخوة).

ومن توجيهاته الموضحة لهاتين النعمتين قوله: «إنى لا أخشى عليكم الدنيا مجتمعة، فأنتم بإذن الله أقوى منها، ولكني أخشى عليكم أمرين اثنين: أن تنسوا الله فيكلكم إلى أنفسكم، أو أن تنسوا أخوتكم فيصير بأسكم بينكم شديدا». إنهما عقد الإيمان والاعتصام بالله، وعقد الأخوة والحب فى الله.

إنه الاستهلال الإيماني والافتتاح الرباني، حيث يذكر الحضور في كل اجتماع أو لقاء بصلتين أساسيتن الأولى نحو ربهم وهي (الرباط الإيماني)، والثانى نحو بعضهم البعض وهي (الرباط الأخوي). وهذا الأمر بدا واضحا جداً فيما عُرف بـ (لقاء الثلاثاء) حيث كان الإمام البنا يبدأ حديثه ويستهله بهذه النعم المعنوية والعواطف القلبية، لدرجة أن هذه الإفتتاحية للقاء الثلاثاء كانت تُعرف بين الإخوان بـ (عاطفة الثلاثاء)، وهو ما كان يحلو للإمام البنا أن يسميها.

ومما ورد عن الأستاذ الشيخ محمد الحامد الحموي، (1328: 1389هـ – 1910: 1969م)، وهو الفقيه والعالم الرباني السوري، أنه كان يسمى هذه الليلة، بـ (ليلة الفيوضات)، تأكيدًا منه على الروح التى تسود هذا اللقاء الذى يجمع الإمام حسن البنا مع إخوانه ومريديه.

وهو اللقاء الذى يتحدث عنه أحد علماء الأزهر، وأحد دعاة الإخوان الذين عايشوا الإمام حسن البنا، وكان حريصًا على حضور لقاء الثلاثاء، وهو العالم المجاهد الشيخ عبد الحليم سعفان، (1914: 1996م)، حيث يعبر عن مشاعره وهو في لقاء الثلاثاء فيقول: «كنت أقف مشدوها لخطاب الإيمان وكأني فى الجنة، وكأنني لست من أهل الدنيا فلا أحس بأي مشقة». إنها مشاعر الصدق التى يعبر عنها هذا العالم الجليل والمجاهد الفاضل- رحمة الله عليه – وهو ما يؤكد الروح العامة لهذا اللقاء الرباني.

ومن تحدثوا عن الإمام البنا قالوا: «كان الرجل – رحمه الله – يحرص كل الحرص على غرس العواطف الحانية في نفوس إخوانه، وكان – رحمه الله – لا يمل من تكرار الإشارة إليها في كل لقاءٍ بالإخوان».

ويقولون عنه أيضاً: «كان الرجل يستفتح حديثه بخاطرة فياضة عن (الحب) وفي كل أسبوعٍ دونما ملل منه، ولا من مستمعيه، وكان يذكر في كل مرة أنه متشوق لرؤيةِ إخوانه. يقولها جادًّا صادقًا تخرج كلماتها من خلجاتِ قلبه، ومكنون فؤاده لتستقر مباشرةً في قلوب مستمعيه ووجدانهم، يستشعرون الصدق في كلماته وعاطفته، والود في تعبيراته والأنس في القرب منه والجلوس بين يديه.

كان يذكرهم دائمًا أن أيام الأسبوع كم هي طويلة وهو بعيدٌ عنهم، وأنه – رحمه الله – يُعاني الشوق ويكابد اللهفةَ طوال أيام الأسبوع، ثم ها هو ذا عندما يقف أمامهم في عاطفته الأسبوعية يوم الثلاثاء يطفئ لهيب الشوق بالنظرِ إلى وجوه إخوانه والاطمئنان عليهم، وأخذ الشِّحنة الروحية والإيمانية لمواصلة الطريق وإكمال المسيرة».

وفي الحقيقة لم يكن هذا الحب وهذه العاطفة من طرفٍ واحد، ولكن كان الحب موصولاً والشوق متبادلًا، بين الإمام البنا وإخوانه، وهي الصفة التى أكدتها شواهد كثيرة في حياة الإمام البنا بين إخوانه، منها على سبيل المثال ما يرويه المرشد السابق الأستاذ محمد حامد أبو النصر – رحمه الله – في مذكراته، أن الامام حسن البنا كان يلقى إخوانه دائماً بشوق وعاطفة، ويفارقهم بشوق أكبر وعاطفة أقوى، فكان إذا التقى بنا نرى فى عينيه لهفة اللقاء، وعندما يفارقنا نقرأ فى عينيه لوعة الفراق، وكان – رحمه الله – يقول لنا: «أنتم رأس المال وهو قليل، أسأل الله ألا يُريني الفجيعة فيكم». إنها عاطفة الأخوة ورابطة القلوب.

يقول الأستاذ سيد نزيلي: «لذلك لا تستغرب أخي الحبيب أن يأخذ أحد تلامذة الأستاذ البنا هذه النقطة الهامة جدًّا وهي (الحب) ويعيش بها ولها، ويتحرك بها بين إخوانه والناس، وتصبح سمةً عليه، فكان هذا الأخ الكريم وهو المرحوم الحاج عباس السيسي علامةً بارزةً من علاماتِ الحب في الله بين الإخوان، بل وأصبح صاحب اصطلاح متميز سطَّره في كتابين له (الدعوة إلى الله حب)، بل وسطَّر كتابين كذلك عن (الطريق إلى القلوب) رحمه الله رحمة واسعة».

وها نحن ننقل لكم واحدة من افتتاحيات لقاء الثلاثاء (*)، للإمام الشهيد حسن البنا، يعبر فيها عن روابط االإيمان وعُرى الأخوة فيقول:

«نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلى ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد.فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيها الأخوة الفضلاء: قلت لكم فيما مضى أنهما نعمتان من نعم الله تعالى على عباده، لاتنال بمال، ولا يتوصل إليها بحيلة، ولا يحصل عليها أحد بجهد، ولكنهما من نعم الله الكبري، هما الإيمان والحب، فمهما بذل الإنسان ومهما حاول من حيلة، فإنه لن ينالهما إلا بتوفيق الله تعالى (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، فالإيمان والحب من فيض الله تعالى، يقذفه فى قلوب من يشاء من عباده، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحجرات 7: 8

وإن من خصائص هاتين النعمتين أنهما من أعمال القلوب، والقلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها كيف شاء، وقد منً الله علينا بنعمة الدعوة واعتناقها والإخلاص لها، تفتحت لها حبات قلوبنا، واستولت على مشاعرنا، نحيا عليها ولها نموت، ولن يصل إليها واصل، ولن ينال منها كره الغداة ولا مر العشيً (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) إبراهيم 24.

كما أنعم علينا سبحانه بنعمة الحب فيه، تواصلت به أرواحنا، وتوثقت عليه روابطنا، ولن يصل إليها أحد كذلك، نلتقى مع الفرقة، ونتواصل على البعد، ورغم كل شيء سيظل كل من الحب والإيمان قويا دفاقا مشرقا فى قلوبنا، لأنه من صنع الله تعالى الذى أتقن كل شيء». انتهى كلام الأستاذ البنا

ويُدلي الإستاذ الشهيد سيد قطب بدلوه في هذا المعين القرآني، وهو يوضح ظلال قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.) فيقول – رحمه الله:

«إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه،

– ركيزة الإيمان والتقوى أولا.. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله. هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها.

– أما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله، فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام – من الركيزة الأولى – أساسها الاعتصام بحبل الله – أي عهده ونهجه ودينه – وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!» (1)

خلاصة القول فى هذا الأمر: أن عقدي الإيمان والأخوة (عقود قلبية)، وأسس قوية في بناء الفرد والجماعة، وهما ماعبر عنهما الإمام حسن البنا في موضع آخر من رسائله حين تكلم عن درجات القوة في بناء الأفراد والجماعات، (قوة العقيدة – قوة الوحدة والترابط).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا هاتين النعمتين، وأن يربط القلوب به برباط التقوي، وأن يوحد صفنا، ويجمع على الحق قلوبنا، إنه سميع الدعاء.

والحمد لله رب العالمين.