الدكتور علي محمد الصلابي

من الأصول القطعية في الشريعة الإسلامية مباشرة الأسباب والأخذ بالمتاح منها قدر الإمكان والوسع، مع التوكل على الله والاعتقاد أن الله تعالى هو الذي أمرنا بالأخذ بها، وجعلها مسببات لنتائجها، وعلى هذا فإن تركها قدح في الشرع، وذلك يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين، ونزيد هنا فنقول إن صاحب الإيمان بالقدر ينازع القدر بالقدر، بمعنى أن لا يستسلم للقدر ما دام له دافع أو رافع أو مانع، فيأخذ من الأسباب ما يحقق ذلك، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني إن "كثيرا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق".

وما قاله هذا الشيخ الجليل العارف بالله حق، ويريد بقوله رحمه الله تعالى أنه يدافع المقدور ما دام في مدافعته مجال مستعينا بالله تعالى، مبتغيا وجهه.

وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع، ويرفعه ويدفعه إذا وقع.

فمن الأول أخذ الحمية لئلا يقع المرض، والابتعاد عن محل الوباء لئلا يصاب به الإنسان، والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو، وليس في هذه الوقـايـة ومباشرة أسبابهـا مناقضة للإيمان بالقدر، وإنما أخذ بقدر لمنع قدر، والقدر ما دام مجهولا عندنا فهو محتمل الوقوع، فنحن نبـاشر أسباب عدم وقوعه، فإن كان مكتوبا عند الله وقوعه لم يتيسر لنا مباشرة أسباب دفعـه، أو تتيسر لنا هذه الأسبـاب، ولكن لا تؤدي إلى نتيجتها لوجود مـانـع يمنع من إفضائهـا إلى مسببهـا. والمقصود هنا أن مباشرة الأسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من الأقدار ليس فيه مناقضة للمعنى الصحيح للقدر، وإنمـا هو أخذ بقدر لمنع قدر، لأن السبب والمسبب بقدر الله تعالى، جاء في الحديث الشريف: قيل: يا رسول الله، أرأيت أدويـة نتداوى بهـا، ورقى نسترقي بها، وتقـاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي من قدر الله».

فإذا كان من قدر الله أن لا يصاب الإنسان بالمرض قدر الله له مباشرة ما يدفع به وقوع المرض.

وعندما وصل الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارف الشام وعلم بنزول الطاعون فيهم، وهمّ بالرجوع، قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه: لو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ونقع في قدر الله، ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه: لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك عدوة مجدبة، وأخرى مخصبة، فإذا نزلت بالمجدبة أو المخصبة أو تحولت من المجدبة إلى المخصبة، فكل ذلك بقدر الله. [الإيمان بالقضاء والقدر، عبد الكريم زيدان، ص 29].

ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرة الأسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه، كتناول الدواء لرفع المرض، وطرد الكفرة الأعداء من ديار المسلمين بعد تسلطهم، بإعداد العدة لذلك، ثم قتالهم، ومثاله أيضا انحباس المطر يرفع بالالتجاء إلى الله، والإنابة إليه، واستغفاره، كما هو معروف في الفقه في باب صلاة الاستسقاء، وكما دلّ عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه السلام وما قاله لقومه: ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا *يرسل السماء عليكم مدرارا *﴾ [نوح: 10 ـ 11]. فالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفاره من أهم الأسباب لدفع المكروه، ورفعه بعد وقوعه، ومنعه من الوقوع قبل أن يقع، وهذه معان يفقهها أهل الإيمان، لا أهل الكفر والجهالة والعصيان.

ملاحظة مهمة: استفاد المقال مادته من كتاب "الإيمان بالقدر" للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيرا من مادته من كتاب "الإيمان بالقضاء والقدر" للدكتور عبد الكريم زيدان.