بقلم ا/ أشرف الشربيني
استطاع الاحتلال الانجليزي (1882-1954) تدمير منظومة القيم للمجتمع المصري، فانتشرت الخمور بين سكان المدن، وصارت تُباع علناً فى القرى وبين الفلاحين، وازدادت معدلات الجريمة والسرقة والنهب، وصار البغاء تجارة مرخص بها! وانتشرت ظاهرة الاستدانة بالربا ولعب القِمار، وسبق ذلك كله نشاط بعثات تبشيرية بين المصريين، فأدت تلك الظواهر مجتمعة إلى (تدجين) الشعب المصري، بعدما فقد القدرة على المقاومة أو الرغبة فيها.
وهكذا تمكن الإنجليز بثلاثة آلاف جندي فقط، من احتلال مصر لسبعة عقود!
بينما فرَّ الاحتلال الفرنسى بعد ثلاثة أعوام فقط(1798-1801)!
ولم تستطع الأحزاب إنقاذ المصريين من وهدة الضياع، فقد كانوا مشغولون بصراعاتهم، كما عجز المصلحون عن تأسيس مشروع يستوعب الأمة ويستثمر طاقاتها، وفشل كلاهما فى مقاومة المستعمر وكبح جماحه.
حتى جاء حسن البنا بمشروع (إنقاذ أمة) لا (سيادة) فئة أو طائفة، واستبق ذلك بدراسة أسباب نهوض المجتمعات وانكسارها، جاعلاً من (الشمولية) نقطة ارتكاز وبوصلة انطلاق، فكُتب لمشروعه (عمق التأثير) بأصالة المنهج، و(قوة الاستمرار) بفاعلية التنظيم.
الشمولية.. وحدة الفكرة والتنظيم
الشمولية هى واجهة الإسلام ومركز تأثيره، ولمركزيتها حرص الاستعمار على تغييبها، ليصبح الإسلام حبيس المسجد بينما العلمانية حرة طليقة فى الحكم والسياسة. فجاء حسن البنا كامتداد لتيار الأصالة والتجديد، ليعيدها من جديد إلى الواجهة، فلم يكتفي بالتنظير لها إنما قام بالتربية عليها والحركة بها، فاهتم بتربية الفرد وصلاحه كما اهتم بإقامة الدولة وسيادتها، هذا ما وعاه يوسف القرضاوي وهو فى سن اليفاعة (أربعة عشر عاما) حين التقى بحسن البنا في عام 1941. فلم تكن (الشمولية) مصطلحاً نَحَته (الإسلام السياسي) كما روَّج العلمانيون، إنما هى ردُّ الأمور إلى نصابها لتكون (السياسة إسلامية)، فالإخوان لا يعرفون إزدواجية ( الدعوي والسياسي )، لأنهم ينظرون إلى الإسلام كوحدة واحدة تصدر عنها التصرفات وتتكامل فيها التخصصات.. وعلى هذا الأساس وضع حسن البنا على رأس أهداف دعوته: تحرير العالم الإسلامي من الاستعمار الأجنبي، وأن تقوم في هذا الوطن الحُرِّ دولةٌ إسلاميةٌ ذات سيادة، يحققها جيل إسلامي امتلك الإيمان وتميز بالخلق واستعد بالوعي والمهارة.
التنظيم حامل الفكرة وحارسها
فالتنظيم لازم لتحقق (الشمولية) وأداة من أدواتها، فلم يكن حسن البنا يؤمن بنظام الطفرات أو حرق المراحل، فلا يُقبل على أمر حتى يستكمل عدته، وهكذا انطلق بـ (التنظيم) إلى ميدان الإصلاح المتدرج العميق:
نظام الأُسر
وهو نظام لتربية الأفراد على الإسلام، ليصبحوا قادرين على حمل الرسالة، وبه تتحقق جاهزية الأفراد لتحقيق الأهداف.
اللجان المتخصصة
وهى المعبرة عن (شمولية) الحركة بالإسلام.. مثل لجان التربية، ونشر الدعوة، والبرّ، واللجنة السياسة وغيرها... وهى وعاء ثانٍ لإكساب الأفراد المهارات اللازمة للقيام بالأدوار والمهام.
نشاط الجوالة
وهو نشاط يستوعب الشباب، فيدربهم على الاعتماد على الذات، وخدمة المجتمع وحمايته، فى وقت الأزمات والكوارث.
هكيلية القيادة
فالقيادة فى الإخوان جماعيةٌ لكن بقائد واحد، يقودها (مرشد عام)؛ بمكتب إرشاد، وِفق سياسات يحددها (الشورى العام)، والثاني ينتخب الأول ويحاسبه.
لوائح الجماعة
وهى لوائح تنظم العمل وتضبطه، وتمثل النظام الأساسي للجماعة، وبغيرها يفقد التنظيم جدواه ومعنى وجوده.
فإذا اكتمل للجماعة تنظيمُها، انطلقت فى تنفيذ (مشروعها) فى هذه المرحلة، والذي يتلخص في: (فك الحصار) عن مجتمع هدَّه الفقر والمرض والجهل، ثم (مقاومة) احتلال أجنبي جاثم فوق أرض الوطن.
دعم المجتمع وحمايته
أدرك الإخوان المسلمون أن (عافية) المجتمع وسلامته، شرطٌ أساسيٌ لاستقلال الوطن وسيادته، فنزلوا ميداناً زَهَد فيه غيُرهم، وهذه بعض من أنشطتهم:
محاربة البغاء
فحاربوا البغاء في أماكن تواجده، فأنشأوا داراً للتائبات فى عام 1929، وتزوج العديد منهن، ومن لم تتزوج تعلمت فنون الطهي والخياطة وغيرها، ثم سعى الإخوان لاستصدار قانونٍ يمنع البغاء ويجرِّمه.
نشر التعليم
ثم شرعوا فى التعليم، فأسس الإخوان في الإسماعيلية عام 1931 «معهد حراء الإسلامي» للبنين، ثم مدرسة «مدرسة أمهات المؤمنين» للبنات في عام 1932..
مكافحة الأوبئة
وحين انتشر وباء الكوليرا عام 1947، وضع الإخوان المسلمون تحت تصرف وزارة الصحة أربعين ألفاً من (الجوالة) للتطوُّع فى فِرَق مكافحة الكوليرا.
مقاومة المستعمر
وبعد أن استرد المجتمع المصري بعضاً من عافيته، انطلق الإخوان به في مقاومة المستعمر في الداخل وفى محيط الوطن..
- حرب فلسطين 1948
كان الإخوان المسلمون يرون أن سلامة مصر من سلامة فلسطين وأمانها، فشارك الإخوان في حرب فلسطين 1948، وحين رأى الاستعمار قوة الإخوان وبسالتهم، أوعز لعملائه:
- بحل جماعة الإخوان في ديسمبر 1948
- ثم اغتيال حسن البنا في فبراير 1949
وكان العمود الفقري لمجاهدي الإخوان رجال (النظام الخاص) الذي تأسس لهذا السبب.
- مقاومة الإنجليز في القناة
بمجرد أن أعلنت الحكومة المصرية إلغاء معاهدة 1936، كتب الكاتب المصري إحسان عبد القدوس في العدد 1224 من مجلة (روز اليوسف) يستحث الإخوان لقيادة المعركة فقال: (فيوم يتحرك الإخوان المسلمون ويعرفون كيف يتحركون وإلى أين، فقد اكتملت لمصر قواها الشعبية وضمنت لأيام الجهاد الاستمرار)، وحين نزل الإخوان المسلمون أرض المعركة، أعلن تشرشل رئيس وزراء بريطانيا (أن عنصرًا جديدًا قد نزل إلى ساحة المعركة). وكان لرجال (النظام الخاص) الدور الأبرز في تلك المقاومة، التي رفعت من كُلفة بقاء الاحتلال في القناة، مما عجَّل بجلائهم.
وهكذا اكتملت الفكرة بالتنظيم، ليصنع الإخوان بها أكبر تحوّل في حياة المصريين، بل في واقع المنطقة بأكملها، مما أزعج الاستعمار وعملائهم، فسعوا إلى تشويه الفكرة وتفكيك التنظيم.