د. صلاح الدين سلطان

الطواف حول البيت العتيق هو تجرد لله تعالى من كل أصنام النفس وإسلام الوجه لله تعالى، قال سبحانه: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) "29 الحج"، وهو في حقيقته جعل الشرع فوق الهوى الداخلي والعرف الخارجي، والطواف حول أصنام النفس داء عضال قلما ينجو منه إنسان، قال تعالى: "أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" الجاثية (23). فالهوى لو تضاعف وتورم يتحول إلى صنم حتى لو طاف الإنسان بالبيت العتيق حاملا فيروس الهوى وأصنام النفس؛ وقديما أصيب شاعر فحل من شعراء العرب بحب ليلى حتى نسي الناس اسمه وصار يعرف بـ "مجنون ليلى"، فأشفق عليه أهله وعشيرته وأخذوه إلى البيت الحرام كي يدعو الله أن يكشف عنه داء ليلى فينسى ذكرها ليعود إليه رشده وعقله، ولما وصلوا إلى البيت العتيق وشرعوا في الطواف رفع جعيرته وسمعه كل الطائفين يقول: فيا رب لا تنساني ذكرها أبداً ويرحم الله عبدا قال آمينا

فقال كل من سمعه: آمين.

وهكذا يتورم الهوى في النفس حتى يتحول إلى سرطان يعشش في كل ذرات النفس، فلا تكاد ترى فكرة سوية ولا فطرة نقية ولا نفسا أبية، أما حقيقة الطواف حول البيت، فهو انخلاع من كل أهواء النفس وعلات الهوى، وانجراف القلب نحو السفاسف، وانهزام النفس أمام الشهوات الطافحة والفتن اللافحة التي تشوه الإنسان فترديه في مستنقع الرذيلة وحول المعاصي، فهذا البيت طهره الله تعالى بيد سيدنا إبراهيم وإسماعيل، كما قال تعالى: " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ .... العَلِيمُ"، بعد أن ضربا أروع أمثلة العبودية الكاملة لله تعالى، فيدع الخليل إبراهيم فلذة كبده إسماعيل وحبة قلبه هاجر بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، بلا زرع ينبت، ولا ضرع يحلب ولا ماء يشرب، ولما تساءلت هاجر لمن تتركنا، فلم يجد إجابة، فلما قالت: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت واثقة: "إذن لن يضيعنا"، ولم تركن لهذا، فتواكلت، بل توكلت وعملت وسعت بين الصفا والمروة لتضرب أروع مثال في بذل الجهد في العمل لا الكسل أو الجدل، ونبع الماء إلى اليوم يحمل معنى الحياة، فهلا تركنا أصنام النفس في الكسل أو الجدل ممن يجلسون الليالي أمام التلفاز يستمعون إلى قوم ليست لهم بضاعة سوى تشويه الشرفاء وإنكار الفضل، وإهمال الفرض، ويزداد رزقهم في الأرض بزيادة التلبيس والكذب، ولهم سوق لدى من تركوا سنة إبراهيم وزوجه وولده في الجد والعمل فينبع الماء تحت قدمي سيدنا إسماعيل شفاء لكل مريض، وغذاء لكل جوعان، وشفاء لكل عطشان، وماء زمزم لما شرب له، إنه ثمرة الإيمان في القلب والسعي والعمل في الواقع، فهل نترك أصنام الكسل والجدل إلى السعي والعمل، والنصح لإصلاح أي خلل، والصبر الجميل على بعضنا دون ملل، ونفض غبار التبعية للغرب دون كلل.

 إنني أكتب وعيني تتردد بين كل فقرة وجملة وكلمة بالنظر إلى هيبة الكعبة، وأقول: رباه متى نطوف طواف العابدين المخبتين، كما قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) "الحج: 34، 35"، فالإخبات للقلب هو جوهر الطواف بالبيت، وهو تسكين النفس على ضفاف حب الله قبل كل شيء، بل كل الشعائر التي تمارس لن تؤتي ثمارها إذا كانت النفس محشوة بأصنام الهوى، فلا تثمر شيئا، كما تنبنت النبتة بين الحشائش التي تسحب من غذائها إلى شتات ما حولها، ولذا قال تعالى في مناسك العمرة والحج، وما فيها من طواف حول البيت: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) "الحج: 30"، هذا في جانب ترك المعاصي لكن قد يترك الإنسان المعاصي وتعظم عنده أمور صغيرة ومتاع زائل، ويجري وراء حلة أنيقة، ومركب فاره، ومنزل وثير، وامرأة وضيئة، ومنصب كبير، ويقول: الحمد لله، لا أرتكب منكرا، فتأتي النصوص الشرعية تنبه لا تخلص، حتى تتخلص من تعظيم ما حقره الله، وتحقير ما عظمه الله، كما قال تعالى (ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) "32 الحج"، ولذلك أعود فألتفت إلى كعبة الله تعالى وأسأل نفسي: هل عظمت حرمات الله وشعائره في قلبي وفي نفسي قبل أن أطوف بالبيت العتيق؟ أم أن التعظيم الأكبر مازال لأصنام النفس من الشهوات كالطعام والشراب والجنس والمنصب والأنانية والأثرة والغضب للنفس، لا لله، وحمية الجاهلية لا الحمية دفاعا عن الحق والقدس والعرض والأرض، هل جئنا للكعبة نحمل الأدران، أم تخلصنا من أصنام النفس وجئنا تائبين عابدين قانتين منكسرين خاضعين متذللين متبتلين؟

 إن حقيقة الطواف حول البيت تبدو ناصعة من تسليم سيدنا إبراهيم وإسماعيل لما رضيا بحكم الله من خلال رؤيا الذبح، والتسليم لأمر الله لهو قمة العبودية له تعالى والاستسلام لأمره، لما قال له: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) "الصافات 102".

"فانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات)، فاستحقا أن يذكرا في العالمين وأن يكون إبراهيم عليه السلام خليل الله.

"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا" 54 مريم.

 وذلك لأن كل رغائب النفس قد ذابت تماماً أمام حب الله تعالى، وأمر الله فوق كل شيء

باختصار يوم أن يعلو الشرع على الطبع، فسيكون طوافنا حول البيت حقيقيا لا وهميا، ومن تخلص من صنفين كبيرين، هما اتباع الهوى الداخلي أو العرف الخارجي الناقض للشرع الرباني، فقد سلم دينه من أصنام نعبدها حقيقة، وإن سجدنا بأجسادنا وصمنا بجوارحنا دون جوانحنا وطفنا حول الحجر لا البيت العتيق الذي باركه الله تعالى بقوله: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ".

تخيلت لو أن كل طائف تخلص في كل طواف حول البيت العتيق من صفة واحدة من أصنام النفس، وعاد مقابلها عبدا ربانيا، عامرا للمسجد، تاليا للقرآن، مصاحبا للصالحين، لتغيرت الأمة كلها.

والأهم هو اكتشاف أصنام النفس، ثم تحويل المعلومات إلى قرارات أن نهدم واحدة وراء الأخرى، بالطواف أو الصلاة أو الصيام أو الذكر أو الخلوة مع الله أو القيام بالقرآن، وآنئذ لن نبدأ من الصفر، بل سيتحول ركام الأصنام والسيئات إلى جبال من الطيبات والحسنات، وليس هذا الكرم إلا من الله الذي وعد بالتطهير والتبديل، فهل نتوب إلى الله توبة نصوحا قبل فوات الأوان؟!!