بقلم: محمد خير موسى
توهّم كثيرٌ من الشّباب المسلم أنّ الأصل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي العلاقة الصّراعيّة السّاخطة، بينما أرادت شريحةٌ من الدّعاة إقناع هؤلاء الشّباب بأنّ العلاقة إخضاعيّة لا يجوز فيها إلّا الخضوع المطلق للحاكم أو للقائد السّياسيّ والتّسبيح بحمده تحت عنوان طاعة وليّ الأمر، وهذا التّناقض هو من إفرازات الاستبداد السياسي وإسهاماته النّكدة في بلورة الأفكار.
إنّ معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنظور الإسلامي عديدةٌ، من أهمّها رسم المنهجيّة الرّاشدة في التّعامل مع إحسان الحاكم وإساءته، وتحديد الواجب على المحكوم عند إحسان الحاكم أو إساءته.
ولقد رسّخ الخليفة الرّاشديّ الأوّل أبو بكرٍ الصّدّيق -رضي الله عنه- هذه المنهجيّة عندما عرّف النّاس بواجبهم تجاهه، وهو الحاكم الجديد الذي يتولّى الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرسم في بيانه السياسيّ الأوّل الذي أعلنه عقب البيعة مباشرة أهمّ معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومنهجيّات التعامل الرّاشديّ؛ قائلًا “فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوّموني”، وهذه العبارة لم تكن شعارًا استعراضيًّا للاستهلاك الإعلاميّ وإنّما منهجيّة ترسم للأمة قواعد بالغة الأهميّة تستحق من كلّ عاقل الوقوف معها واستنباط ما فيها من معانٍ ثرّة.
التوازن المطلوب في النظرة إلى الحاكم والقائد السياسي
إنّ الرسالة الأولى في هذه العبارة من الصدّيق -رضي الله عنه- إلى مَن هم تحت الحكم هي ضرورة التحلّي بالنّظرة المتوازنة إلى القائد السياسيّ والحاكم؛ فهو بشرٌ يصيبُ ويخطئ، ويحسنُ ويسيءُ، فلا عصمةَ له مهما بلغ من العلم والمعرفة والخبرة والمكانة، ولا تنزيه له عن الخطأ والقصور والخلل مهما بلغ من الحكمة والكفاءة والعقل، وهو في الوقت نفسه موظفٌ مكلَّفٌ من الشعبِ والرعيّة بالقيام بمهامه، وهو مُعرَّض للنّجاح والفشل والتّقدّم والتراجع.
ونحن بين فريقين من الرعيّة والأتباع والمحكومين ذهب كلّ منهما إلى أقصى الطّرفين، ولقد أبعدا النّجعة في النّظر الراشد؛ الطّرف الأوّل يرى الحاكم والقائد السياسيّ معصومًا من الخلل منزّهًا عن الزّلل ولو قال أهل هذا الطرف بلسانهم خلاف ذلك؛ فالقائد السياسيّ عندهم مُلهمٌ على كلّ حال، مصيبٌ في كلّ اجتهاد، عبقريٌّ في كلّ قرار، فالحقّ عندهم هو ما قاله الحاكم والقائد، والباطل ما اعترض عليه هذا الحاكم والقائد، والتّأييدُ المطلق عندَهم هو أصل العلاقة بين القائد السّياسي ومن يقودهم وبين الحاكم ورعيّته.
والطّرف الثّاني مُعارضٌ على الدّوام ومعترضٌ وساخطٌ على كلّ شيء، يرى أنّ كلّ ما يصدرُ عن القائد خطأٌ لا يُغتفر، ويَعُدُّ كلَّ فعلٍ أو قولٍ منه خطيئة لا مجال لاستيعابها، ويَعُدُّ المعارضةَ المطلقةَ هي الأصل الأوحد في تعامل الرعيّة مع قائدها وحاكمها.
وكلا الطّرفين جانبه الصّواب، وتطرّفَ في الموقف تطرّفًا فاقدًا للتّوازن الذي يقتضي التعامل سلوكيًّا ونفسيًّا في اتخاذ المواقف من أفعال القائد والحاكم بناءًعلى اجتماع صفتي الإحسان والإساءة في شخصه، والتوازن يقتضي كذلك الإنصاف في اتخاذ الموقف من أفعال هذا القائد وقراراته قبولًا ورفضًا؛ هذا الإنصاف الذي يغدو عزيزًا عندما يتمحور الأفراد والرعيّة حول الأشخاص لا الأفكار.
مراقبة الحاكم ومحاسبته من مقتضيات إحسانه وإساءته
إنّ معرفة مواضع الإحسان والإساءة والصّواب والزّلل في سلوك وقرارات القائد السّياسي والحاكم الشّرعيّ يقتضي مراقبة سلوكه في الحكم والقيادة، والتّدقيق في أفعاله وقراراته، ومتابعة تصرّفاته.
وما دامت الأمّة هي صاحبة السّلطة في التّعيين والعزل؛ فإنّ ذلك يوجب عليها المحاسبة والمساءلة، وهذا سبيله يكون بالتدقيق والتّتبّع، والبحث والتّقصّي، ولا يحقّ للحاكم أو القائد أن يضيق ذرعًا بمراقبة الأمّة له ومساءلتها إيّاه.
ومن الواجب تأكيده أنّ هذه المراقبة يُشترَط فيها الموضوعيّة والتّجرّد والإنصاف، فترى الإحسان في عمل الحاكم والقائد السياسيّ بالعين ذاتها التي ترى الإساءة؛ فلا تُضخّم الإنجازات لتنفي الإساءات والتّجاوزات والأخطاء، ولا تُضخّم الإساءات والأخطاء لتُشيطن القائد والحاكم من خلال نفي إحسانه وإنجازاته.
وعند حصول الإحسان من القائد ووقوع الصّواب منه وتوفيق الله له في قرار أو فعل، أو إبداعه في موقف أو نجاحه في حلّ معضلة، أو إحسانه في كلمة يقولها أو تصريح يصرّحه، فمن الواجب على الرعيّة أن تعينَه بالقول والفعل، ومن الإعانة أن يُشكَرَ على موضع إحسانه وأن يتمّ التّواصل معه تعزيزًا لموقفه وشدًّا لعضده وتأكيدًا على حُسن صنيعه، فالقائدُ السياسيّ بشرٌ يشدّ عضده التعزيز والكلام الطيّب، ويثبّت قدمه أن يرى ثمرة صوابه في رعيّته، على ألّا يتحوّل هذا الشّكر والمديح والإشادة إلى نوع من المداهنة المُبالَغ فيها، أو التّطبيل والتّسحيج الذي يقطع ظهر القائد ويجعله يعيشُ مع الأيّام دورَ المخلّص الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه.
وكذلك فإنّ الشّيطنة المطلقة التي تقوم على إغفال كلّ إحسان وتجاهله والتّعمية عليه وتسفيهه، وتضخيم كلّ إساءة أو خطأ أو زلل؛ ليست من التّقويم الذي قصده الصدّيقُ أبو بكرٍ -رضي الله عنه- في شيءٍ، بل هي ضربٌ من الهدم الذي يتنافى مع الرّشد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم والقائد ورعيّته.
إنّ القاعدة التي رسّخها أبو بكر -رضي الله عنه- تطلب من الأفراد والرعيّة أن يكونوا شركاء القائد والحاكم في العمل إن كان حقًّا وصوابًا ويحقّق مصلحة الأمّة، كما تطلب منهم أن يتدخّلوا بطريقة فاعلة راشدة لتصويبه حين يرتكب خطأ أو إساءة في التّصرّف والسّلوك، فهم شركاء حقيقيّون وفاعلون، لا مجرّد هادمين وساخطين ولا مطبّلين ومصفّقين.