مروة عبده

يعيش الإنسان في عالمنا المُعاصر قلقاً متزايداً ومخاوف جمة واغتراباً عن النفس دفع بمعدلات الاكتئاب إلى ذروتها أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشر، إذ تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يُقدر من 3.8% من البشر يعانون من اضطراب الاكتئاب بما يوازي حوالي 280 مليون شخص حول العالم؛ وهو ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الانتحار التي وصلت إلى 700 ألف شخص يموت منتحراً كل عام ليصبح الانتحار في المركز الرابع بين الأسباب الرئيسة للوفاة.

ويشير الاكتئاب إلى ذلك الاضطراب النفسي الذي يصيب الشخص ويؤدي إلى الشعور بالحزن وسرعة الغضب والفراغ، بحسب منظمة الصحة العالمية، وبما ينتج عنه فقدان الاستمتاع بالأنشطة والاهتمام بها، وهو يختلف عن التقلبات المزاجية المعتادة التي لا تستمر وتيرتها معظم اليوم أو على مدار أيام متعاقبة لمدة طويلة ولا تحدث يومياً مثل تلك التي تصاحب الاكتئاب.

ويتجلى من ذلك الارتباط القوي فيما بين الاكتئاب والحزن، وما يبُثه الاكتئاب في المشاعر الإنسانية من فقدان الرغبة في الحياة والاستمتاع بها، والعجز عن القيام بالأنشطة اليومية وتفضيل العزلة والخمول، وهو ما قد يؤدي بالبعض للانتحار والآخرين بالانسحاب من الحياة الاجتماعية.

هل الاكتئاب ضعف في الإيمان؟

إن الحكم على مرضى الاكتئاب بضعف الإيمان يعد حكماً قيمياً أخلاقياً يضر أكثر مما يفيد، ولا يعالج الاكتئاب باعتباره مرضاً مثل أي مرض عضوي يحتاج إلى استشارة طبية وعلاج متواصل وأخذ بالأسباب كما أمر ديننا الحنيف بذلك، والأهم من ذلك فإن الربط الحتمي بين ضعف الإيمان والاكتئاب يعارض بشكل جلي ما ورد في القرآن الكريم بشأن مشاعر الحزن وأخطارها، ونهي الخطاب القرآني المؤمنين عن الحزن لما ينطوي عليه من آثار سيئة على نفس الإنسان، وهو إقرار إلهي بضعف النفس البشرية وما يصيبها من وهن نتيجة التعرض للابتلاءات التي طالت حتى الأنبياء المُرسلين رغم أنهم أشد الناس إيماناً.

الحزن والمرض

وقد ربط القرآن الكريم بين الشعور بالحزن وأثر ذلك على جسد الإنسان في قصة سيدنا يعقوب: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84)؛ أي أن الحزن الشديد وكثرة البكاء على يوسف قد أدت إلى فقدان بصره لأنه كظيم أي مملوء بالحزن كاظماً له ومُخفياً لحزنه عن الآخرين، وهو ما تجلى في (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ)؛ أي أن حزنه جعله ينعزل عن الجميع ويستجمع أسفه على فقدان ابنيه يوسف، وبنيامين؛ ما أدى به إلى المرض، وفي الآية التالية: (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) (يوسف: 85)، وبذلك يُحذر الخطاب القرآني من خلال أخذ العبرة والموعظة من قصة يوسف ويعقوب عليهما السلام.

الحزن والخوف

واقترن الحزن في الخطاب القرآني بالخوف في مواضع مُتعددة، فهما مفهومان لصيقان يشيران إلى ما للخوف من أثر في نفس الإنسان وما يثيره من الحزن؛ (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (القصص: 7)، وهي توعية قرآنية جلية لما يعتمل في نفس الإنسان نتيجة كثرة الضغوط والأعباء، وإطلاق الفكر في مسائل الخوف من المستقبل وقلة الأرزاق وانعكاس ذلك كله في إغراق الإنسان في دائرة الضياع النفسي، ولذلك كله جعل الله جزاء الصبر على الابتلاء بالخوف من أعظم الجزاء، يقول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، فلولا أن الخوف من أعظم الابتلاءات على نفس الإنسان لما كافأ الله عباده الصابرين عليه بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وفي ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه» (رواه مسلم)، وهي إشارة صريحة لإمكانية إصابة المؤمن بالهم والغم والحزن، وأن ذلك الهم من القوة والتأثير بمكان ما يجعله مُكفراً للذنوب في مجاهدة الإنسان له، لما للحزن والهم من مشقة على النفس وابتلاء لا يقل قدراً عما يلاقيه الإنسان من ابتلاء في جسده أو أهله أو ماله.

علاج الاكتئاب في الخطاب القرآني

ونهياً عن الحزن، جاء القرآن الكريم بنصائح حاسمة للعباد لكي يقوا أنفسهم من الوقوع في شرك الحزن والاكتئاب، والنجاة مما يُحيط بذلك الحزن من مشكلات نفسية وجسدية فردية واجتماعية، ومن أهم أركان تلك الوصفة القرآنية:

– الإحسان: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 112).

– الصبر: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127).

– اليقين بالله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

– التقوى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس).

– التوكل على الله: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق: 3).

– العمل الصالح: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).

– الصدقة والإنفاق في سبيل الله: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 262).

المصدر: المجتمع