بقلم: د. علي محمد الصلابي

إنّ سننَ الله في كونهِ وشرعِه تحتّم علينا الأخذ بالأسباب، كما فعل ذلك أقوى الناسِ إيماناً بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله ﷺ، لقد قاوم الفقرَ بالعملِ، وقاومَ الجهل بالعلمِ، وقاومَ المرضى بالعلاج، وقاوم الكفرَ والمعاصي بالجهادِ، وكان يستعيذُ بالله من الهمِّ والحزَن، والعجزِ والكسل، وتعاطى أسبابَ الأكل والشرب، وادّخر لأهله قوتَ سنةٍ، ولم ينتظر أن ينزلَ عليه الرزقُ من السماء، وقال للذي سأله: أيعقلُ ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل»، وما غزواته ﷺ المظفّرة، إلا مظهراً من مظاهر إرادته العليا، التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذَ الحذر، وأعدَّ الجيوشَ، وبعثَ الطلائعَ والعيونَ، وظاهرَ بين درعين، ولبسَ المغفر على رأسه، وأحاط بالأسباب كلها ولم يهملها، أو يزدريها حتى، وقد أدرك الصحابةُ رضوان الله عليهم هذا المعنى، وفهموا أنَّ الإيمانَ بالقدرِ، لا يعني تركَ الأخذِ بالأسباب، ليعملوا بهذا النهج، ويبنوا على أساسه، كل عمل ومقصد ( عقيدة التوحيد، سعاد مِيْبر، ص 212).

كما أن القرآن الكريم حافل بالآيات، التي توجِبُ على المسلمين الأخذَ بالأسباب، في شتّى مناحي الحياة، والعمل على استقصاء تلك الأسباب، للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة، التي تواجه الأمم والأفراد، ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد، قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *﴾[الأنفال 60].

فأمرَ التمكين لهذا الدين يحتاجُ إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتمَّ القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة، للأخذ بأسباب القوة، وأوجبَ الله تعالى على الأمةِ الأخذَ بأسبابها، لأنَّ التمكينَ لهذا الدين طريقةُ الوصول إلى القوة، بمفهومها الشامل .

إن الأصل والواجب على الأمة الإسلامية اليومَ، لتنهضَ وتتقدّمَ وتترقّى، في مصاعد المجد، أن تجاهدَ بمالها ونفسِها، الجهادَ الذي أمرها الله به في القرآن الكريم، جهاداً مادياً ومعنوياً ،في النفس قبل المادة، وما اشتمل عليه من مسببات، ومقومات وأسس، التي تضع صاحبها على طريق أهدافه ومقاصده، وتحقق مطالبه، وتوصله غايته، وتبلغه مرامي النصر.

ولا مناص من القول، أن مقومات النصر التي قررها الإسلام في منهجه، حملها الفاتحون المسلمون، وعرفها العالم في خلق المسلم، لا تتبدل ولا تتغير، وإن لوضوح العقيدة ومتانتها عاملًا حاسمًا في انتصارات المسلمين، فجيش عقيدته موحدة، جيش متجانس فكريًّا، هدفه ثابت، وسعيه موحد، ويرتبط بهذا الأمر أن القتال لم يعد لغايات دنيوية زائلة، وإنما هو لله، للعقيدة الخالصة، وعندما صار سعي المسلمين لله لا للدنيا، طابت نفوسهم، وارتقت أخلاقهم، فالتركيز يكون أولًا، على دور العقيدة، والدين والأخلاق، في تحقيق النصر، لكن هذا لا ينفي أن للأسباب المادية أهميتها ودورها، وقد وعى المسلمون ذلك، وعملوا بمقتضاه، فكانوا يعدّون الرجال للمعركة روحيًّا وجسديًّا، ويعدّون السلاح، وكانوا يحرصون على معرفة قدرة العدو وإمكاناته، وفي المقابل يحافظون على سرية تحركاتهم واستعداداتهم، فلا يعلم بها العدو، ففي انتصارات المسلمين كانت الحكمة حاضرة، وقد اقتضت الإقبال على الحرب عند التيقّن من أسباب نجاحها، وتأجيلها ما دامت الظروف غير مواتية فلا إقدام على حرب غير متكافئة، وإلا تكون النتائج جدّ مؤلمة (عوامل النصر والهزيمة، عبد المطلب علاء الدين، مدونات الجزيرة).

ولابد من الإشارة ولاشك، أننا اليوم في أمس الحاجة لتلك المقومات، أيّ مقومات النهوض في ظل الضعف، ومسببات النصر في أوقات الهزيمة والانحدار، وتفرق أبناء الأمة، وركائز مادية ومعنوية، من شأنها أن تُحدث التغيرات الجذرية، والتحولات على شتى الأصعدة سياسية، أو عسكرية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو دينية أو حضارية.

فلابد من العناية بالدعائم المسببة لعامل النصر الذي طال أمده، واشتدت المحن بطالبيه، واستكانت نفوسهم إلى اليأس، وأصبحت من الإحباط أقرب، ومن الانتفاض أبعد، وهذا لقصور استجابتهم، وقلة عنايتهم في الأخذ بالأسباب المؤدية إليه، وإغفالهم لهذا الجانب، الذي يعد أساساً لكل مشروع، وقاعدة لأي بناء ونهضة.

 لقد أمرنا الله سبحانه بالإعداد الشامل، بقوله جلّ شأنه : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ الأنفال60] إعداداً ظاهراً في المادة، وكامناً في النفس، كالـ: الإيمان الحق، وقوة العقيدة،  والعبادة، والقيادة الحكيمة، وقوة الصف والتلاحم، وقوة السلاح والساعد، والوحدة، واجتماع الكلمة، والطاعة، وعدم العصيان، والشورى،  والإعداد، والصبر، والثبات،  والتأييد والإخلاص الإلهي، والثقة بالله عزّ وجل، وتقواه، والإكثار من ذكره، ونصرته، ورفع رايته، وإعلاء كلمته، والتوكل عليه حق التوكل، وغيرها الكثير من العوامل والدعائم، كما أنه لا يمكن ترك العوامل المادية، المتاحة والمباحة، فلها شأنها ودورها، في كافة الميادين الحياتية الملموسة، فلا يكتمل جانب دون الآخر، خاصة في الملمات التي تتطلب هذين الجانبين ولا تتم جدواها إلا بهما.

فمـا أحـوجَ المسـلمين اليوم إلى أن يحصّلـوا كلَّ أسبـاب القوة، فهم يـواجهون نظامـاً عـالمياً وقوًى دوليةً لا تعرِفُ إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديدَ بالحديدِ، ويقابلوا الريحَ بالإعصارِ، ويقابلوا الكفرَ وأهله بكلِّ ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يـدهم، وبكلّ مـا اكتشف الإنسـان، ووصل إليه العـلمُ في هـذا العصر من سلاحٍ وعتـادٍ واستعدادٍ حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجَزون (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص225).

إنَّ من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقةٍ مباشرةٍ مع سُنن التمكين، سنّةَ الأخذِ بالأسباب، ولذلك يجبُ على أفرادِ الأمة وقادتها العاملين للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها، وإنزالها على أرض الواقع، وأن لا يترك الأمر للقدر، فقدر الله حقٌّ ونافذٌ، لكنّه ينفذ، من خلال السنن، التي أقام الله عليها نظام الكون، من خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وشرعها، وليستقيمَ عليها أمرُ الوجودِ، ونظامُ التكليف، فهذه السننُ والأسبابُ جزءٌ لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط.

المصادر والمراجع

1.   سنة الله في الأخذ بالأسباب، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت.

2.   عقيدة التوحيد، سعاد ميبر،ط1، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1999م.

3.     عوامل النصر والهزيمة، عبد المطلب علاء الدين، مدونات الجزيرة،2023م. انظر:      https://www.aljazeera.net/blogs/2023/9/7/

4.   ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أبي الحسن الندوي، ط1، مكتبة الإيمان، مصر، القاهرة، 2014م.