وائل قنديل

قضى بنيامين نتنياهو عمره السياسي كله يمضغ وهمًا اسمُه "القضاء على حماس". لا الوهم انتهى، ولا القضاء على "حماس" حصل، بل إن حركة المقاومة الباسلة أسقطت عديد حكومات الاحتلال الصهيوني، وخاضت معارك شديدة على مدى العشرين عامًا الماضية، خرجت منها، كلها، أقوى مما كانت، وبقيت صامدةً مرفوعة الرأس تعطي دروسًا للعالم في المقاومة الوطنية ضد المحتل.
منذ اغتيال الشيخ أحمد ياسين في مارس 2004 بعملية أشرف عليها شارون شخصيًا، والكيان الصهيوني يتوهّم أن من شأن تصفية مؤسّس الحركة المقاومة أن يقضي على مشروع المقاومة ذاته، لكن دماء الشيخ القعيد الذي قصفته إسرائيل بالصواريخ لدى عودته من صلاة الفجر وفّرت مدادًا إضافيًا من روح البطولة في نفوس الجماهير، التي أنجبت في يوم استشهاده فقط ستة مشاريع بطولة، وسمّتهم جميعًا "أحمد ياسين".
في كل المعارك ضد الاحتلال، كان الصهيوني يضع القضاء على "حماس" هدفًا استراتيجيًا، ففي عدوان 2008 - 2009 على غزّة كان العنوان هو إنهاء المقاومة، ولو عدتَ إلى أرشيفات هذه الحرب، ستجد نفسَك في قلب تفاصيل العدوان الحالي (2023 -2024)، إذ تتكرّر التصريحات ذاتها، كما تتكرّر بعض الوجوه، وبالتبعيّة لا تأتي التعليقات والتحليلات مختلفة كثيرًا، ففي الأسبوع الثاني من يناير 2009 كان الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل يطلّ في واحدةٍ من حلقاته الأسبوعية عبر شاشة الجزيرة متناولًا عدوان الاحتلال على غزّة، ومن ضمن ما قاله، في ذلك الوقت، إن إسرائيل من خلال عدوانها على قطاع غزّة تريد القضاء على حركة حماس، وهي تعتقد أن هناك فرصة مناسبة لتنفيذ مآربها بوجود الفراغ السياسي في الإدارة الأمريكية، وهذا ما انتهزته إسرائيل إضافة إلى انشغال العالم بالأعياد وبالأزمة المالية، مشيرًا إلى أنها تتصوّر أنها لو تصرّفت بقوة وبعنف، فإنها تستطيع أن تُحرز تقدّما واضحا، وتضع العالم كله أمام الأمر الواقع، فجهزت نفسها جيدا للعمليات العسكرية المخطّط لها مسبقا لإعادة هيبة جيشها الذي فقد سمعته في حرب لبنان عام 2006، وهو يشعر الآن أن الحرب على غزّة ستعيد له هذه الهيبة. 
تتبدّل الأدوار الصهيونية، لكن الوهم يبقى معشّشًا في كل الرؤوس، إذ يطلّ بنيامين نتنياهو في العدوان الحالي باعتباره رجل الحسم العسكري، مردّدًا أن محو "حماس" من الوجود هو الهدف الأول الذي لن يتوقّف القتال من دون تحقيقه. وفي مواجهته، يقف إيهود أولمرت وإيهود باراك من مقاعد المعارضة ساخرين من هذا الشعار، بالقول إن القضاء على "حماس" مستحيل، لكن بالعودة إلى خريطة القوى والمواقف الصهيونية من العدوان في 2009 تجد ثمّة مقاربات ومواقف أخرى، إذ، بحسب رصد هيكل في ذلك الوقت، كانت "الأحزاب الإسرائيلية مقبلة على الانتخابات، وهناك صراع شديد جدّا في إسرائيل بين أربع شخصيات، هي إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية وإيهود باراك وزير الحرب الذي يريد إثبات أنه جنرال الحرب والأمن وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية التي تعتقد أنها زعيمة مجموعة كاديما، وهي تتصوّر أنها تشبه غولدا مائير، وهناك بنيامين نتنياهو الذي يتصوّر أنه كرجل لديه الأغلبية، وهؤلاء جميعا يطمحون من خلال الحرب على غزّة إلى توسيع قاعدتهم الشعبية".
كان الحضور الأميركي كاملًا في ذلك العدوان أيضًا، حيث كانت إدارة جورج بوش الابن طرفًا في الحرب، وورثتها إدارة باراك أوباما، وبقي الهدف هو القضاء على "حماس"، وكانت الأدوار العربية المشينة حاضرة كذلك، ولعل أبرز تعبير عنها كانت تلك اللقطة الدافئة بين وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط ووزيرة خارجية الاحتلال تسيبي ليفني بالقاهرة، التي شهدت التصريح الأسوأ للوزير المصري عن كسر أقدام أي فلسطيني يفكّر في الهروب من القصف العنيف إلى سيناء.
بتعبير هيكل، كان ما يحدُث في قطاع غزّة من محاولة أميركية إسرائيلية لتصفية المقاومة الفلسطينية، وكذلك إلى مزيد من الإخضاع للدول العربية الموصوفة إسرائيليًا بمحور الاعتدال، والذي يصفه بأنه اعتدالٌ لمصلحة السلامة، وليس لمصلحة السيادة أو لمصلحة الحقّ، ما أدى إلى إعطاء العرب واشنطن، وبالضرورة إسرائيل، أكثر مما ينبغي.
وفي قراءته الموقف المصري في عدوان 2009 تحدّث هيكل عن كاريكاتير في مجلة إيكونوميست وصفه بأنه يفزع كل مصري يراه، لأنه يؤكّد، مع الأسف الشديد، أن مصر شاركت بحصار غزّة، وهذا يدل على أن هناك حالة خطيرة جدا، وهي أن كل السياسيين الأجانب الذين قابلوا الرئيس حسني مبارك نقلوا عنه أشياء مهولة وخطرة جدا تُنسب إليه، وآخرهم كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي قال في إسرائيل لإيهود أولمرت إنه سمع من مبارك أن "حماس" لا ينبغي أن تنتصر في هذه المعركة. "كم هو مؤلم أن يتم إغلاق معبر رفح تحت ذرائع سببها الوحيد هو الابتزاز الإسرائيلي وإرضاء الأميركيين".
كان القضاء على حماس حاضرًا كذلك في عدوان 2012 ثم 2014 ثم 2019 و2021 وها هو نتنياهو ومعه البيت الأبيض يعلنانه هدفًا وحيدًا، تحلم به كذلك ما كانت تعترف بدول الاعتدال العربية، التي صارت الآن دول التطرف والفجور في الخصومة لأي حركة تحرير والكراهية لفكرة المقاومة ذاتها.
هي عشرون عامًا من الأوهام الإسرائيلية، وأيضًا من الخذلان العربي الكامل، والبسالة الفلسطينية المُلهمة.

المصدر: العربي الجديد