بقلم: السيد شعيب
عرف الأستاذ خالد محمد خالد الإخوان في سن مبكرة، وزارهم في دارهم الجديدة بالحلمية الجديدة، وغدا عليهم وراح مع عدد من أصدقائه الإخوان مثل الشيخ سيد سابق، والشيخ محمد الغزالي، وتأثر كثيرًا بالإمام الشهيد حسن البنا لا سيما وقد صحبه في رحلاته وأسفاره ومؤتمراته، ولعل ذلك التأثر المبكر في حياة الأستاذ خالد محمد خالد كان دافعًا كبيرًا إلى تراجعه عن فكرة فصل الدين عن الدولة التي دعا إليها وسجلها في بعض كتبه مثل كتابه "من هنا نبدأ".
لقد روى الأستاذ خالد محمد خالد بعض المواقف التي عاشها في صحبة الأستاذ المرشد، أو سمعها عنه وسجل ذلك في مذكراته التي كتبها بعنوان "قصتي مع الحياة".
ويبين لنا الأستاذ خالد في هذه السطور بعض صفات الإمام البنا الشخصية وجوانب من نبوغه، وعبقريته التي تميز بها عن أقرانه من الزعماء والمصلحين، ونموذجًا لاجتماعات الأسر التي كان يشهدها الإمام البنا مع الإخوان في أحد المساجد..
يقول الأستاذ خالد: "كنا كثيرًا ما نجد فضيلة المرشد جالسًا وسط فنائها (دار الإخوان) يستروح نسمات الأصيل ومعه بعض الإخوان فنجالسه ونستمع لحديثه المفيض، ودعاباته الممتعة، وإذا ذهبنا مساء جلسنا معه في مكتبه أو في الصالة نصغي لمحاضراته.
كان إعجابي بالإمام البنا يتنامي دومًا فكل ما فيه يدعو للإعجاب به وبالمودة له، علمه وخلقه وسمته وزهده وتواضعه وتبتله وجهاده ومثابرته وتفانيه وسحر حديثه ورواء بيانه وشخصيته كلها الآسرة والمضيئة.
نموذج للمدرس المنضبط
كان الإمام البنا مدرسًا بمدرسة عباس الابتدائية الكائنة بحي السبتية، وكان عمي الأستاذ عمر خالد وكيلاً للمدرسة، وذات يوم كنت في زيارته ورحت أحدثه عن تفاني الأستاذ المرشد في دعوته وجهاده العجيب والدءوب الذي لا يترك له وقتًا يفيء إلى راحة أو دعة فهو يجوب الأرض وثبًا، ويجوب البلاد سعيًا من أسوان إلى العريش داعيًا ومعلمًا ومرشدًا.
فأجاب عمي قائلاً: أضف إلى معلوماتك إنه لا يتخلف عن المدرسة يومًا واحدًا، وإنه كثيرًا ما يقرع باب المدرسة وقت الفجر فيعلم بواب المدرسة أنه هو وينهض من مضجعه ليفتح له، ويدخل الشيخ حسن هكذا كانوا يدعونه فيصلي الفجر ثم يتجه إلى غرفة المدرسين فيخرج من قمطره وسادة صغيرة وعباءة يلتحف بها وينام فوق كنبة بين مقاعد المدرسين موصيًا البواب أن يوقظه قبل موعد الحصص، حيث ينهض، ويتوضأ ويصلي نافلة الضحى ويبعد الوسادة والعباءة إلى مكانهما في انتظار يوم جديد ثم يتجه إلى فصله وتلاميذه.
ليلة مع الإمام البنا
وقبل أن يزدحم وقت المرشد بالتبعات والمسئوليات كان يقضي بعض الليالي في بعض المساجد مع أسر الجماعة بالتناوب.
ولقد شاركناهم أنا والشيخ سيد سابق في إحدى تلك الليالي، حيث صلينا العشاء، ثم ألقى فضيلة المرشد محاضرة وأجاب على بعض الأسئلة ثم وزعت علينا بعض السندوتشات الخفيفة، ثم صدر الأمر بالنوم فنام الجميع.
وقبل الفجر بأكثر من ساعة استيقظنا بالأمر أيضًا وتوضأنا وراح كل منا يتهجد ويصلي حتى جاء الفجر وصدح آذانه فصلينا وراء المرشد وختمنا الصلاة مستغفرين مسبحين واستمعنا لدرس من الأستاذ ثم صدر الأمر بالانصراف إلى بيوتنا كي يتهيأ كل منا للذهاب إلى وظيفته أو إلى مدرسته ومعهده.
هذا نموذج لاجتماعات الأسر التي كان يشهدها الأستاذ ويقضيها مع الإخوان في بيت الله عندما لا يكون على سفر قريب أو بعيد.
من جوانب نبوغه وعبقريته
هذا الرجل المتصوف الأواب كان أستاذًا في فن الزعامة. والزعماء السياسيون الذين عاصرتهم بل وكثيرًا من زعماء العالم الذين قرأت عنهم تتقاصر هامتهم عن هامته في الزعامة التي كان يتناولها بيد أستاذ حاذق وقدير.
صحبناه أنا والشيخ سيد سابق في مؤتمرين كبيرين في ليلتين متتالييتن كان المؤتمر الأول في مدينة طنطا وكان المؤتمر الثاني في مدينة المحلة الكبرى.
في مؤتمر طنطا انتظم السرادق بين جنباته ما لا يقل عن مائة ألف من الحضور دعاني فضيلة المرشد لإلقاء كلمة كما دعا من قبلي الشيخ سيد سابق.
واذكر أنني استشهدت في كلمتي ببعض أبيات من الشعر كنت قد قرأتها في كتاب "المواهب اللدنية" وتدعو فيها أصوات منبعثة في جوف الأصنام سيدنا عمر إلى الإيمان بالله وبرسوله.
وبعد فراغي من كلمتي أخذت طريقي إلى مقعدي بينما كان الأستاذ المرشد في طريقه إلى منصة الخطابة فصافحني مبتسمًا، وهو يقول لي أهلاً بمستنطق الأصنام.
ووقف الأستاذ يواجه الجموع أتدرون كيف بدا؟
بدأ بلفتة، أو بحركة من أذكى ما يبهر بها زعيم جماهيره، فقد راح يستعرض مراكز مديرية الغربية وشهيرات قراها، وأنا لا أعرف أسماء هذه ولا تلك ولكن الأسماء الكثار الكثار التي هتف بأسمائها تنبئ بأنه ذكرها جميعًا أو أتى بأكثرها.
وبعد كل مركز أو قرية كبيرة ينادي عدد غير قليل من الإخوان الشيخ فلان معنا الحج فلان الأخ فلان وكل من يسمع اسمه يقف معلنًا حضوره نعم يا فضيلة المرشد.
لبث هذا الاستعراض للأسماء والبلاد والإخوان قرابة نصف ساعة وهتافات التكبير والحمد تتعالى انبهارًا بهذه الذاكرة وهذا الوعي وهذه الزعامة الفطنة العليمة الحافظة لحق الإخوان على كثرتهم في أن يكون لهم من نفس المرشد هذه العناية والرعاية وهذه الاهتمام والتقدير، وكان يقظًا لكل شاردة وواردة.
وفي صباح اليوم التالي للمؤتمر نبيت في منزل الأستاذ البهي الخولي وكان المشرف على الإخوان في محافظة الغربية، كلها جلسنا إلى مائدة الإفطار في أعداد كثيرة وبسط الأستاذ البهي يده إلى الراديو لنستمع إلى تلاوة الصباح، وإذا القارئ يتلو هذه الآية الكريمة (إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص: من الآية 19)، كان من الممكن لهذه الآية أن تترك من التشاؤم والتساؤل ما يتفاقم خطره لو تركت بلا تعليق والأستاذ المرشد يدرك هذا تمامًا، لذلك سارع يقول وعلى شفتيه ابتسامة واسعة: هكذا قالوا لموسى رسول الله وهكذا اتهموه بأنه يريد أن يكون جبارًا في الأرض لا مصلحًا، فالحمد لله الذي جعل لنا في رسله أسوة وقدوة.
وتتبعت وقع الكلمات على الوجوه فوجدتها منفرجة الأسارير مستريحة باسمة وكذلك كنت أنا أيضًا".