شيماء أحمد

في عالم «نيو رأسمالي» يؤمن فيه قادة الإعلام بأن دورهم مجاراة ما تطلبه السوق أو عامة المشاهدين، لم يكن صعبًا تخيل الصعود السريع لبرامج المقالب الهزلية من عينة ما يقدمه الممثل «ر.ج»، الذي تحول برنامجه لأيقونة سنوية في تحدي قيم شهر رمضان وقيم المسلمين عمومًا.

من «قرش البحر»، لـ«قلب الأسد»، و«المجنون الرسمي»، و«من الآخر».. في كل عام يبتكر صناع برنامج المقالب الشهير، الذي تبثه شبكة خليجية متلفزة، طرقًا جديدة للإيقاع بضحاياهم من رياضيين وفنانين، فتارة في البحر ومرة في الجو وثالثة في الصحراء ورابعة في أستوديو يقوده عبر كرسي قيادة، ليجد هؤلاء النجوم أنفسهم في مواجهة مرعبة مع حيوانات مفترسة كالثعابين والكلاب البوليسية، أو مواقف خطرة توهمهم بتعرضهم للغرق أو الاحتراق، يتخفى مقدم البرنامج خلال تلك الآونة في شخصيات مختلفة، ويتخلل البرنامج تعليقاته على ردود فعل هؤلاء الفنانين ورعبهم وصراخهم.

وسواء كانت ردود الفعل تلك الشخصيات حقيقية أم مفتعلة ومتفق عليها، فإن المؤسف عدم اكتراث صناع برنامج المقالب عبر أكثر من 10 سنوات بموجات الهجوم التي تنطلق ضدهم في كل عام بتهمة إشاعة البذاءة والتنمر والتحرش، وتخطيهم الدعاوى القضائية التي تنتظرهم في المحاكم، طالما الربح والمشاهدة مضمونين، وهذا ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدر «الرويبضة»، واعتبار ذلك من علامات آخر الزمان!

نظام التفاهة المقننة!

يقول زيجمونت باومان، عالم الاجتماع في كتابه الأشهر «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»: إن السوق الاستهلاكية تقدم لزبائنها منتجات معدة للاستهلاك الفوري، وهي غالباً لاستخدام واحد، وآخر ما تهتم به هو القيمة الجمالية والإبداعية فيما تقدمه.

ويصف آلان دونو، الفيلسوف الكندي، نظام التفاهة قائلاً: «العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة، وفي عصر التفاهة المنظمة أصبحت الفنون مجرد نفخات تبعث النشوة في المشاهدين تماماً كمفعول الحشيش، ويصبح الاحتكام لقيم الربح دون اعتبار للقيم الإنسانية والأخلاق والجمال، لقد غرقنا في حملات منظمة لترويج التفاهة عبر الشاشات الزرقاء، واخترقت بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وشاشاتنا بنعومة فائقة، وعملت شركات التسويق والإعلام والدعاية على إحكام سيطرتها لنشر التفاهة وتسطيح الحياة بعيداً عن أي غاية أو عمق قيمي».

تخريب القيم

بدأت برامج المقالب بفكرة «الكاميرا الخفية»، لكنها تطورت وأصبحت تسارع في تسطيح العقول، وصناعة نجوم التفاهة بتمويل سخي ورؤية معدومة ليحلوا محل النجوم الحقيقيين والنخب في المجتمع، ويصبح افتعال الفظائع والابتذال لأجل الشهرة أمراً عادياً شائعاً، وهو ما يجعلنا نلقي باللائمة على مثلث المنتج والمؤدي والمشاهد.

دعونا نعدد بعضاً مما يخلفه لبرنامج المشار إليه من آثار كارثية على الأسرة المسلمة:

– إشاعة التنمر: بطل المقالب اعتاد المزاح والسخرية والتنمر، وهو الذي يعتبره بعض المشاهدين فكاهة وليس جريمة! وللأسف فقد تسلل لسلوكيات الصبية والأطفال الذين يشاهدونه، يقول الاستشاري النفسي د. علي عبدالراضي، في تصريح صحفي: «من الممكن أن يكون مقدم البرنامج مصاباً بمرض السادية أو التلذذ بتعذيب الآخرين»، وقد سبق للدكتور خالد عبدالجليل، رئيس الرقابة على المصنفات الفنية، أن حرر محضراً ضد البرنامج قبل سنوات واتهمه بالخروج عن التقاليد.

وجاء في بيان مستشفى العباسية للصحة النفسية بمصر، عن نسخة البرنامج العام 2020م: «وجدنا أنه يحمل كثيراً من العنف والتعذيب والسخرية والاستهانة بالضيوف، والتلذذ بالآلام التي يسببها للآخرين، وممارسة التنمر عليهم، وسط ضحكات مقدم البرنامج، وبما يتنافى مع آدمية الإنسان والإنسانية».

– إشاعة البذاءة: اعتاد البرنامج إطلاق ألفاظ بذيئة لوصف ضيوفه بدون استثناء، والتنمر على أجسادهم وملابسهم بشكل مسف سوقي، حتى لا يمكن تخيل كيف يمكن لفنان أن يرتضي لنفسه هذه الأوصاف مقابل المال؟!

– الإباحية وإشاعة المعصية: اعتاد مقدم البرنامج ملامسة الفنانات بشكل مبتذل، وتصوير سقوطهن في برنامجه بطريقة مسفّة، إضافة لما تقدم من السقوط اللفظي المروع بحق كل ضيوفه، بما يتنافى مع منظومة القيم الإسلامية التي تستهدف تزكية النفس، يقول الله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ {151} فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) (البقرة).

– العدوان على براءة الطفولة: رفعت الكثير من منظمات حقوق الطفل تقارير بشأن مشاهدة برامج المقالب الرمضانية، وذكرت أن الصبية في المدارس اعتادوا تقليدها بما يهدد سلامتهم الجسدية والنفسية، كما أن هذه البرامج تهدم كل القيم الحميدة في نفوس الأطفال وتجعلهم عدوانيين يميلون للتنمر والبذاءة، كما تعد مشاهدة تلك البرامج إهداراً لوقت ولعقل وشخصية جيل بأكمله.

– انحدار الذوق العام: يعد شيوع البرامج الهابطة انحداراً بالذوق العام للمشاهدين وخاصة الشباب، ولحسن الحظ فإن شريحة كبيرة من الشباب المسلم لا تزال تملك الوعي لانتقاء ما تتعرض له بوسائل التواصل والشاشات.

– تحدٍّ صارخ لقيم رمضان: وللأسف هذه الشراك المنصوبة في كل عام من انتشار دراما ومواد ترفيهية مبتذلة وإعلانات راقصة، يعد فيها برنامج المقالب حلقة من كل كبير ينشر المعصية ويجاهر بها في تحدٍّ لقيم الشهر الفضيل، شهر القرآن، الذي كتب الله علينا فيه الصوم والقيام والأخلاق الحميدة طلبًا لحصول التقوى في القلوب، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وهي الغاية الكبرى، التي لا يمكن تصورها أبداً مع مشاهدة حلقات الإسفاف الرمضانية التي سبقت تدابير إبليس نفسه لهدم جلال هذا الشهر في نفوس المسلمين، وجعل مشاهد السلاح والدعارة والمخدرات والفجور وشرب الكحول والخروج على المجتمع هو الأصل وليس النشاز!

تبدو مواجهة تلك الموجة من التفاهة وانتهاك القيم واجب الوقت لصناع الإعلام بتوفير البديل الأكثر انحيازاً للقيم العربية الإسلامية الذي يحمل طابع العصرية والجودة والإبداع وملاءمة احتياجات المشاهدين لوجبة متكاملة بين الإثراء والإمتاع أيضاً الذي لا يعني الابتذال!

المصدر: المجتمع