https://ikhwanonline.com/article/265244
الخميس ٦ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ - 7 نوفمبر 2024 م - الساعة 06:42 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
مواقف وأحداث

محاضرة للإمام البنا.. الهجرة من وحي المدينة المنورة

محاضرة للإمام البنا.. الهجرة من وحي المدينة المنورة
السبت 6 يوليو 2024 12:06 م

كتب الإمام البنا هذا المقال وهذه المحاضرة أثناء أدائه مناسك الحج عام 1364ﻫ الموافق 1945م، وقد أقام الإخوان حفل تعارف بمدرسة العلوم الشرعية حضره جمع غفير سواء من الرسميين أو من الحجاج.

ولقد قال الإمام البنا:

بسم الله الرحمن الرحيم..

نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ساعة كريمة نتحدث فيها بكلام كريم من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن آثار رسوله وأحاديثه، نسأل الله أن يكون ذلك عملاً مقبولاً، فيكتب لنا ولكم به ثواب العاملين وأجر المحسنين، وما اجتمع المسلمون على طاعة الله-تبارك وتعالى- إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من قبل الحق-تبارك وتعالى: أين المتحابون فيّ؟ أين المتوادون فيّ؟ أين المتآخون فيّ؟ اليوم أظلهم بجلالي يوم لا ظل إلا ظلي".

اجتمعتم من بلدان بعيدة وأقطار متفرقة يحدوكم الأمل ويشوقكم طلب رضوان الله، فاجتمعتم في طيبة البلد المبارك والحرم الكريم في المسجد النبوي، وأتاح الله لنا فرصة طيبة لأن نلتقي ونتعارف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس ناسًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، لهم في الجنة غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها". قالوا: من هؤلاء يا رسول الله صفهم لنا قال: "أولئك أقوام من أبناء القبائل ونوازع الناس اجتمعوا على غير أرحام بينهم إنما جمعهم الحب في الله".

ما الذي جمعنا- أيها الإخوان- على غير أرحام، وعن غير تعارف سابق إلا الأخوة في الله والإيمان به، وحب المؤمن للمؤمن وعاطفة المسلم للمسلم، إنه رباط العقيدة التي جمعنا الله عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

من حقكم إذن علينا أن نشكركم على ما أتحتم لنا من فرصة كريمة، وفي الحق، إن هذا الاجتماع ليس لدرس ولا لمحاضرة ولا لخطابة ولا تبادل مدح أو تقارض ثناء، ولكن لبه وصميمه أن ننتهز هذه الفرصة، فرصة زيارتنا للمدينة المنورة ولسيدنا محمد رسول الله فنلتقي في مكان نتبادل بعض ما يهم المسلمين، وبعض ما يجب عليهم بعضهم على بعض، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ (النساء: من الآية 1).

سجل- تبارك وتعالى- في كتابه الكريم أن الناس لأب واحد وأم واحدة، وإنما جعلهم كذلك ليتعارفوا فلن يفرق بينهم بلدان ولا أوطان ولا أجناس ولا ألوان.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم، اجتمعنا لنتعارف فأولى ثم أولى أن ننتهز فرصة الاجتماع ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر كما شرع لنا قرآننا وبيّن لنا نبينا ﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ (العصر).

وإنا نستمطر الرحمة لمؤسس هذا المعهد الكريم، ونسأل الله أن يجزيه عن مدرسة العلوم الشرعية خير الجزاء، وأن يبارك نجله الفاضل، وأن يوفق مجلس إدارتها الموقر وأساتذتها إلى ما فيه الخير، وأن يوفقنا جميعًا لتشجيع مثل هذه المشروعات النافعة إنه نعم المولى ونعم النصير.

خطر لي وقد أرادت بعثة الإخوان أن تسعد بهذا التعارف وكان طبيعيًّا أن نتحدث إلى حضراتكم فيه ليس لرغبة فيه، فالله يعلم أننا لم نتهيب يومًا من الأيام الحديث كما نتهيبه في هذه المدينة المباركة التي انبثق منها نور العلم والعرفان.

وما دمنا قد اجتمعنا فلا بد أن نتواصى ونتذاكر أننا- أيها الإخوان- نستقبل عامًا جديدًا ونودع عامًا ماضيًا، فمن حق العلم الماضي علينا أن نودعه، ومن حق العام المقبل علينا أن نستقبله، ونحن بين وداع واستقبال ما أولانا بالتذكر، وهل أولى بالتذكر من مثل هذا الموقف؟ هذا معنى من المعاني يوحى إليّ كثيرًا من القول، ويذكرني بهذه المناسبة الحادث العظيم الكريم العميق الأثر في حياتنا حادث الهجرة وحديث الهجرة ونحن في دار الهجرة.

نستقبل عامًا جديدًا من أعوام هذه الهجرة، يذكرنا بها ويرسم أمامنا حوادثها، فما أولانا بأن نتكلم ونتحدث.

ومعنى ثالث، إنكم- أيها الإخوان- من أقطار مختلفة وبلدان متباينة وشعوب كثيرة، أقطارنا وبلداننا وأوطاننا وشعوبنا كلها تستقبل من الزمن عصرًا جديدًا وحوادث جديدة، فما أولانا أن نتبين طريقنا ونرسم منهاجنا.

الناس ثلاثة: رجل لم يدرك سر وجوده ولم يتبين وظيفته في حياته، إن سألته لم خلقت؟ وماذا تصنع؟ ولم وجدت؟ يقول لك: دعني فإني عنك مشغول، وهو لا يدري لوجوده سرًّا، ولا يدري له في الحياة وظيفة، إنما خلق ليكبر ويغلظ ويضخم ثم تحق عليه الكلمة فيموت كالشجر العقيم لا ثمر يؤكل ولا ورق يظل، إنما يكون بعد ذلك كما يقول الحق- تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)﴾ (الأعراف)، ومن عجيب حكم الله أن هذا الصنف ليس بالقليل ولكنه كثير.

وصنف آخر أراد أن يتبين سر وجوده، وأراد أن يتعرف مهمته في حياته، فأخطأ الطريق وضل السبيل، همه في الدنيا لقمة سائغة ومركب فارهة ومتعة زائلة، فأقبل على ذلك يعب منه وينهل، وهكذا قضى حياته مثله مثل سابقه ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ (آل عمران:  من الآية 14)، ثم احتقر القرآن ذلك فقال: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (آل عمران: من الآية  14)، وما أحقر متاع الحياة الدنيا في نظر القرآن والإسلام ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)﴾ (الزخرف)، ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الزخرف: من الآية 35)، ويقول رسول الله: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة" تعس وانتكس، هذا صنف أراد أن يعرف طريقه فضل السبيل هو والغافلون سواء.

وصنف آخر أنار الله بصائرهم فأشرقت مصابيح الهدى في أفئدتهم فأقبلوا على الله تعالى يتعارفون ويتذللون لجنابه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)﴾ (الذاريات)، ويسمعون نداء الحق ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ (الذاريات: من الآية 50)، ففروا إلى الله بقلوبهم ومشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم فجعلوا أوقاتهم طاعة وأعمالهم عبادة.

وأدركوا حق الوقت وقيمة الوقت، وعرفوا أن الوقت هو الحياة فوهبوا لحياة الله ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)﴾ (آل عمران).

لهذا أحب ونحن نستقبل عامًا ونودع عامًا أن نقف بين العامين وقفة نسأل أنفسنا، هل غفلنا؟ هل نسينا؟

نحن الآن- أيها الإخوة- نتسلم كراسة جديدة عدد ورقاتها 360 ورقة جديدة، لكل يوم ورقة، وقد انتهت الكراسة القديمة والله أعلم بها، ونسأل الله أن يغفر لنا ما مضى ويصلح لنا ما بقى، ما أولانا أن نقف اليوم ونحن على مفتتح العام الجديد فيذكر كل منا نفسه هذا عام جديد، الليل والنهار صحيفة من صحائفه، يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل والنهار، وما من عمل يعمل إلا ويسجل في صحف مطهرة بأيدي كرام بررة ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)﴾ (الجاثية)، ويقول رسول الله: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة".

ومعنى آخر- أيها الإخوة- إن أردتم أن تعدلوا في الكراسة القديمة فإن هذا ممكن، اقتضت حكمة الله وكرمه أن تدع للناس محلاًّ يراجعون فيه أنفسهم ويتوبون إلى الله فيتقبل توبتهم، والله- سبحانه وتعالى- أكرم من أن يسجل علينا ما نعمل إن أردنا توبة صادقة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)﴾ (آل عمران)، ولقد جاء في الحديث كذلك أن العبد إذا أذنب فذكر الله فتاب واستغفر قال الحق: "إن عبدي عرف أن له ربًّا يغفر الذنب أشهدكم أني قد غفرت له".

ففي وسعكم أن تعيدوا هذه النظرة على عامكم الماضي، فمن ارتكب إثمًا أو عمل عملاً لا يرضاه الله له فإن الطريق أمامه واضحة، إن كان من حقوق الخلق رده، وإن كان من حقوق الله تضرع إلى الله بالتوبة ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ﴾ (الشورى: من الآية 25)، ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (الشورى: من الآية 26).

فلننظر إلى الماضي نظرة نردفها بتوبة واستغفار، ولننظر إلى الحاضر والمستقبل نظرة عزم وإصرار، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يسمعون فيفقهون فيعملون.

المعنى الثاني: ونحن في دار الهجرة لا تنتظروا مني كلامًا فلعلكم أولى الناس بأن نسمع منكم وأنتم أبناء الأنصار الذين كانت الهجرة إليهم، وإن مثلنا ومثلكم في هذا القول كحامل التمر إلى هجر، أو كمقدم الورد إلى الجنان، إنما أحب فقط أن نحقق الأمر الرباني في قول الله- تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب: من الآية 21).

نمر مرورًا سريعًا على المواقف البارزة الظاهرة التي يجب علينا ويحسن بنا أن نذكرها لنفيد منها في حياتنا الحاضرة.

كانت حياة رسول الله دروسًا عالية، ولأمر ما قال الله- تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: من الآية 21)، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾ (آل عمران).

حادث الهجرة، ذلك الحادث العميق الأثر البعيد النتائج في تاريخ المسلمين عبر دروس وعظات ينبغي للمسلمين أن يعرفوها ويتدبروها؛ ليكونوا- كما كانوا- سادة الأمم وقادة الشعوب. إن هجرة رسول الله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كانت الفاصل بين عملين من أعمال الإصلاح الفردي في مكة إلى الإصلاح الاجتماعي في المدينة.

كان في مكة داعيًا مبلغًا يجمع الفرد إلى الفرد، يربي العقيدة الصحيحة والنفوس المؤمنة، يكون اللبنات، يجتمعون في دار الأرقم، وما كان المشركون بمكة يدعون الرسول وصحابته ينتظم لهم جمع، أو يلتئم لهم شمل، ورسول الله يبني بأمر الله هؤلاء الأفراد، لتكون الأمة التي وصفها الله- تبارك وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

أما في المدينة فقد استقام له الأمر، لقي فيها أهلاً آزروه ونصروه، فكان المجتمع الذي يصح أن يبني من هذه اللبنات، فعلينا- أيها الإخوان- أن نبني الفرد المسلم، ثم نبني الأمة المسلمة، ما أولانا أن ننظر كيف بنى الله- تبارك وتعالى- هذه النفوس في مكة، ثم بنى هذا المجتمع في المدينة.

عاملان اثنان بنى عليهما الفرد المؤمن، وعاملان بنى عليهما المجتمع المؤمن.

طبعت النفس الإسلامية الأولى على خلقين، ودعمت على صفتين، وطبعت بهذين اللونين طبعًا ثابتًا لم يتغير ولم تتبدل، الإيمان العجيب الذي طبعت به هذه النفوس، آمن الفرد المؤمن بربه فاستند إليه، وآمن بكتابه فنزل على حكمه، وآمن بنبيه فأطاعه واتبعه، وآمن به وعرف أنه منتدب من لدن الحق- تبارك وتعالى- لحراسة الرسالة العظمى ولإقرار الحق، وكان يتلى على مسامعه صباحًا ومساء ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)﴾ (الزخرف)، ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ (النمل).

عرف رسوله وأنه مرسل من قبل الحق، آمن بربه، آمن بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، آمن بنبيه الصادق الذي أدى الرسالة وبلغ الأمانة.

بدأ هذا الإيمان عجيبًا عميقًا في تصرفاتهم وأعمالهم، أثر هذا الإيمان في نفوس هؤلاء القوم، عرفهم كل شيء فحطموا الأصنام بأيديهم، وكانوا يشربون خمرًا ويسمعون غناء، يقضون أوقاتهم في لهو وعبث، فأصبحوا يقطعون الليل تسبيحًا وقرآنًا، كان يتخاصمون ويتشاجرون فأصبحوا متحابين متآخين، تغيرت كل صفات حياتهم، والعجيب أن يحدث ذلك وقد كبرت بهم السن وفات وقت التربية.

وعرفوا قول الحق- تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143)، وعرفوا المهمة التي تتجلى في قول الحق: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج: من الآية 78).

المعنى الثاني: إن هذا الإيمان ولد الصبر والاحتمال في النفس المؤمنة، صبر عجيب وتضحية وشجاعة، وقد تقلبت على النفس المؤمنة الامتحانات والاختبارات في المال والأهل والولد، فثبتت لذلك وصبرت صبرًا عجيبًا، وكان آخر ذلك الهجرة ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8)﴾ (الحشر)، والهجرة قرين القتل ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ (النساء: من الآية 66)، والهجرة قرين الموت والقتل.

وما خرجوا عن ديارهم وأموالهم كراهة لأوطانهم حتى إن الرسول كان ينظر إلى مكة فيقول: "والله إنك لأحب بلاد الله إلي الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت"، لم يخرجوا قلى لها ولا رغبة عنها إنما خرجوا يلتمسون نصرة دين الله- تبارك وتعالى.

ولذلك كانت دعوة الرسول أن يحبب الله إليهم طيبة كحبهم مكة وأشد، فاستجاب الله لهم وحببت للمؤمنين من يومهم.

فقد المسلمون أموالهم، وعذبوا في أبدانهم، صودروا في أملاكهم وما أسفوا على شيء، وما بكوا على شيء في سبيل الله ونصرة دينه.

ما أحوجنا الآن إلى أن نؤمن بربنا فنستند إليه.

يقولون: ماذا تصنع الأمم الإسلامية وهي ضعيفة فقيرة لا سلاح بأيديها ولا مال معها، لا قوة ولا مناعة؟ خير لها أن تستسلم وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، عجيب أن يبلغ المؤمنون في مكة أربعين فردًا فتنزل الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (64)﴾ (الأنفال).

كان الرسول وأربعون معه هم الذين حملوا عبء هذه الدعوة فأدوا الأمانة ونشروا دين الله، كانوا عزلاً من كل شيء، ولكن الإيمان كان يملأ أفئدتهم فلا يخافوا شيئًا.

لو آمنا بعض إيمانهم لأدان الله لنا الدنيا، رستم قائد الفرس يظفر بعربي من طلائع جيش سعد يستجوبه ويستنطقه فيقول له: ما الذي أخرجكم من دياركم؟ قال: كنا ضالين فهدانا الله، أرسل الله لنا رسولاً من أنفسنا، وأمرنا أن نبلغ هذه الرسالة، فإحدى ثلاث: إما أن تسلموا ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإما الجزية، وإلا فالسيف حتى يحكم الله بيننا وبينكم. قال رستم: أي سيف تعني وعند كسرى أضعاف أضعافها؟ قالها له هازئًا ساخرًا فقال له العربي: هون عليك، إننا لا نحارب الناس ولكن نحارب القدر، "نحن قدر الله وقضاؤه فلا نرد ولا نخزى ولا ننهزم، وقد سلطنا الله على الناس".

وبهذا الإيمان هزم سعد ومعه اثنا عشر ألفًا جحافل جيوش الفرس.

لو أن معنا بعض هذا الإيمان لاستطعنا أن نجدد في أمتنا هذه الحيوية، إيمان وصبر، نريد أن ينبثا في كل رجل مؤمن، يجب أن يقوى إيمانه بربه وكتابه ونبيه وأن يحمله هذا الإيمان على أن يكون صبورًا جلدًا يواجه كل امتحان واختبار في سبيل عقيدته بكل سرور وامتنان.

كانوا يقولون مع القائل: إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتغريبي سياحة.

وما أولانا أن نطبع قلوبنا مثلهم على الصبر والاحتمال، خصلتان يبنى عليهما المجتمع الإسلامي، وما أحوجنا إلى الوفاء وكلمة الصدق يقولها الإنسان ويبحث عنها جيدًا.

هذا مصعب يتحدث إلى الطليعة الأولى في يثرب فيأتي سعد يسأل عن خبر الرجل فيركز حريته ويقف على مصعب يتهدده فيقول له مصعب: يا أخي، اجلس واستمع فإن وجدت خيرًا فخذ معنا به، وإن وجدت شرًّا فدع. فيستمع إلى القرآن فيقول سعد: ماذا أقول حتى أكون معكم؟ فيقول مصعب: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله. ويرجع سعد إلى أهله بوجه غير وجهه فيقول لهم: "إن كلام رجالكم ونسائكم عليّّ حرام حتى تسلموا" فيسلمون.

هذا سعد الذي يسمع الرسول يقول وهم خارجون إلى بدر: "أشيروا علىّ- أيها الناس" مرتين أو ثلاثًا، فيفقهها سعد الفقيه فيقول: إنك تعنينا يا رسول الله. إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء.

الأمر الثاني: الوحدة والحب، وصدق الله العظيم ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾ (الحشر).

لقد ألف الله بالإسلام بين هذه القلوب، وقد توحد كل شيء في المجتمع: زيهم، شكلهم، حركتهم واحدة، كنا نتصور المدينة كلما قرأنا تاريخ الهجرة وكتبها كالثكنة العسكرية، أو كقشلاق من الطراز الأول.

قبل أن تطلع الشمس يطلع عليهم بلال فإذا بالجميع قاموا يتوضئون ويدوون بالقرآن، فإذا أذن ابن أم مكتوم خرجوا جميعًا إلى المسجد يتجمعون حول قائدهم المظفر، ويتصورون مثلاً أعلى واحدًا، ويتكرر هذا التدريب خمس مرات في اليوم، الشعور واحد، والاتجاه واحد، والقبلة واحدة، فإذا اختلفوا في أمر نزل الوحي من السماء.

لقد وقفت أمام الآية الكريمة ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ (المجادلة: من الآية 1)، مأخوذًا، إلى أي حد كانت صلة الجميع بالله تعالى.

هذه الوحدة، كانت وحدة وجدان وحب قبل أن تكون وحدة قانون، يشعر أحدهم أنه جزء من أخيه "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

بقى أن نقول: إننا نؤمن ونعتقد كما أن حضراتكم تؤمنون بأننا مهما تباعدت ديارنا، ومهما اختلفت حدودها فنحن أبناء وطن واحد.

الإسلام دين وجنسية، ونحن نؤمن بهذا وننادي به، ونوصي أن يتأهب كل إنسان بالعمل لبلده على أنه جزء من الوطن الإسلامي الكبير الذي يقول: لا إله إلا الله.

فكل مسلم يقول: "لا إله إلا الله" له علينا حق أن نسأل عنه وندافع عنه، وفي كتاب "البحر المحيط" مسألة: إذا امرأة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب أن ينقذوها.

ونحن الآن على مفترق الطرق، ولن يرضى الله لنا أن نذل ونخزى وهو يقول:﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8)، ويقول رسول الله: "من أعطى الذلة طائعًا غير مكره فليس مني".

وختم فضيلة المرشد كلمته بتذكير المسلمين بالتمسك بتعاليم دينهم، وحثهم على الوحدة والإخاء والحب في الله حتى يعود للإسلام مجده وللوطن كرامته وحريته.

--------------

للمزيد:

1- أنور الجندي، مع بعثة الحج للإخوان المسلمين عام 1364ﻫ، دار القلم.

2- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.