إن من كمال كرم الله ـ عز وجل ـ أنه ليس مقيدًا بزمان أو مكان، بل هو كرم دائم، يشمل عباده في جميع أوقاتهم، ويغمرهم برحماته في كل أحوالهم. ومن واسع كرمه ـ سبحانه ـ أنه جعل في أيام الدهر وشهوره مواسم يضاعف فيها الفضل، ويزيد فيها العطاء، ليتزود منها العبد، فيكون على صلة دائمة بربه، لا ينقطع عنها بانقضاء الموسم، بل يستمر في الطاعة، ممتثلًا لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99).

الكرم الإلهي في رمضان: دعوة للاستدامة

شهر رمضان هو أعظم مواسم الرحمة، حيث تفتح فيه أبواب الجنة، وتصفد الشياطين، وتتنزل البركات، فتتهيأ النفوس للطاعة، وتنشرح القلوب للذكر والعبادة. وهذه الأجواء الإيمانية تجعل العبد يستشعر قربه من الله، بل إن بعض الناس يكاد يلمس بركات الرحمة الإلهية بحواسه لكثرة انتشارها في هذا الشهر الكريم.

لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا: هل كان رمضان مجرد محطة مؤقتة للطاعة، أم أنه بداية عهد جديد مع الله؟ إن من صفات الكرماء دوام الكرم، ولا يُعد كريمًا من يكرم في مواسم، ثم يغلق أبوابه بعد انتهائها. فكيف بنا ونحن نعبد صاحب الكرم  المطلق سبحانه؟ فهل من الحكمة والعقل أن  نغلق نحن الأبواب التي فتحها لنا  سبحانه في رمضان بمجرد انتهائه؟

أهمية الاستدامة في الطاعة

لقد أرشدنا النبي ﷺ إلى منهج تربوي عظيم في العبادة، حين قال: “خير الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” (رواه البخاري ومسلم). فمن الجميل والجيد  تكثيف العبادة وأعمال الطاعة في  رمضات وفى مواسم النفحات، ولكن ليس من العقل والحكمه أن  نهجرها، بل يجب أن نحافظ على العمل الصالح ولو كان قليلًا. وهذا ينسجم مع قاعدة الاستمرارية التي يجب أن تكون منهجًا للمؤمن في حياته كلها.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

“من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.”

فمن ذاق لذة العبادة في رمضان، وعرف طريق القرب من الله، فليحرص على ألا يعود إلى الغفلة بعده.

كيف نحافظ على روح رمضان بعد انتهائه؟

لكي تستمر نفحات رمضان في حياتنا، علينا أن نسأل أنفسنا: 

ما الأعمال التي استشعرنا فيها قرب الله في رمضان؟ وما العبادات التي  نعتقد أنها فتحت لنا أبواب الرحمة؟ ثم نلزم أنفسنا بالثبات عليها بعد رمضان.  مع الثبات على :

    1.    المحافظة على الصلاة في وقتها:

فهي أعظم صلة بين العبد وربه، وقد قال النبي ﷺ: “أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها” (رواه البخاري ومسلم).

    2.    مواصلة قراءة القرآن:

كان الصحابة لا يهجرون القرآن بعد رمضان، بل يزدادون تعلقًا به؛ فهو نور الحياة، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17).

    3.    الاستمرار في الصيام:

فقد شجع النبي ﷺ على صيام ست من شوال، وقال: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر” (رواه مسلم).

    4.    الحرص على الأذكار والدعاء:

فمن وجد في الدعاء راحة في رمضان، فليستمر عليه، فهو باب مفتوح لا يُغلق، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60).

    5.    الاستمرار في الصدقة والإحسان:

كان النبي ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، لكن كرمه لم يكن مقصورًا على هذا الشهر، بل كان ديدنه طوال حياته.

 وليكن شعارنا بعد رمضان: (وعجلت إليك ربي لترضى)

إن الثبات بعد رمضان يحتاج إلى عزيمة صادقة، وتذكير مستمر بأن الله لا يزال يرانا، ولا تزال أبواب القرب منه مفتوحة. ليكن شعارنا في بقية العام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} (طه: 84)، فنستمر في السير إلى الله بلا انقطاع، سائلين إياه الثبات والهداية.

إن رمضان فرصة عظيمة للتغيير، لكنه ليس النهاية، بل هو بداية عهد جديد مع الله. فلنحرص على ألا نغلق بابًا فتحه الله لنا في رمضان، ولنسعَ للاستدامة في الطاعة<

نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذين يحافظون على الطاعة بعد رمضان، وأن يرزقنا الثبات على دربه حتى نلقاه، إنه سميع مجيب.