كان الأستاذ محمد حامد راغب مدرس المواد التجارية يتابع نشرة الأخبار، فعلم منها ما يحدث لإخواننا في غزة، من حصارٍ ظالمٍ لا يجدون بسببه طعامًا ولا شرابًا، ولا يجد المريض علاجًا، وزاد من شدة الأمر منع البتروليات والكهرباء، فاجتمع على الشعب المسلم قسوة البرد، وألم الجوع، واجتمع على المرضى آلام المرض، وغياب العلاج وتعطُّل الأجهزة الطبية.

 

ذهب الأستاذ محمد إلى المدرسة، وأخذ يتجاذب أطراف الحديث مع زملائه وطلابه، ووجد فيهم غضبًا عارمًا من أجل ما يتعرَّض له إخوانهم في فلسطين، ووجد لديهم الرغبة في مساندتهم ومناصرتهم بأي وسيلة ممكنة، ولو كلَّفهم ذلك الكثير والكثير.

 

عاد الأستاذ محمد إلى البيت، استقبله أطفاله "علياء وإيثار وأحمد"، حملهم على كتفيه وقبَّلهم، وأقبلت عليه زوجته قبَّلت يديه ورأسه، ودخل مسرعًا إلى غرفة أمِّه العجوز، قبَّل يدها، وأخذ بيدها لتنهض معه لتناول طعام الغداء، وأثناء تناوله الطعام حكى لأمه وزوجته وأبنائه ما وجده من خيرٍٍ أصيلٍ في هذا الشعب، وكيف عبَّر الجميع عن رغبتهم في مساندة إخوانهم في فلسطين، وانتهى الحديث مع الغداء ولم تنتهِ دعوات أمه وزوجه له بأن يعينه الله ويوفقه.

 

في المساء كان موعده مع فيلم تسجيلي معروض في المذياع المرئي، يحكي مأساة إخواننا في فلسطين، وعلى الأخصِّ في غزة، نظَرَ فوجد أطفالاً صغارًا يرتجفون من الخوف، تعلو وجوهَهم علاماتُ الهلع وهم يقفون أمام جنود مدجَّجين بالسلاح، وهذا رجلٌ يبكي بحُرقة على أرضه التي جرفها اليهود، وأخذوها منه، وآخَر ينظر إلى أطلال منزله بعد أن هدمه اليهود، وأما هذه المرأة العجوز فتنساب دموعها لفقدها أبناءها تحت نيران طائرات (إف 16) اليهودية المجرمة..

 

اجتمعت هذه المشاهد على الأستاذ محمد، فأصابته بالألم والحسرة، وأضافت الحوارات مع أبناء غزة ألمًا آخرَ؛ فهذا يقول لا أستطيع أن أرجع إلى بيتي وليس معي طعامًا لأبنائي؛ فبكاؤهم من الجوع يقطع نياط قلبي، وأم تقول لو أستطيع أن أقطع من جسدي لأُطعم ولدي لفعلت، وشاب يبكي أباه الذي لم يتوفَّر علاجه، أما أشدّ ما أثَّر في أستاذ محمد قصة الشاب الذي جُرِحَ وظل ينزف أيامًا؛ لأن الأجهزة الطبية معطَّلة لغياب الكهرباء، كما أنه لا يوجد دواء، وفارق الشاب الحياة، رغم سهولة إنقاذه وعلاجه في الظروف الطبيعية.

 

أخذت هذه المشاهد تدور في رأس الأستاذ محمد، يسأل نفسه: لو أن هذه العجوز أمي وهؤلاء الصغار أبنائي وهذا الشاب أخي ماذا كنت أفعل؟! لماذا يُفعل بإخواننا كلُّ هذا؟ أين أمة العرب؟ أين المسلمون؟ أين مواثيق الأمم؟ أين الحكام؟ أين؟ أين؟!

 

ظل الأستاذ محمد يشاهد مشاهد الذلّ والعار والخراب والدمار، مع كل مشهد تزداد حسرته ويشتد ألمه، ولكن أثلج صدره قليلاً دخول إخواننا في فلسطين إلى مصر محطِّمين جدارًا صنعه الاستعمار، وليعلنوا وحدة الأمة وتماسكها وترابطها؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يخذله.

 

وكان ترحيب النظام المصري به عاملٌ آخر يزيل شيئًا من الألم عن قلب أستاذ محمد، ثم لقي نداء القوى الوطنية المخلصة بالتظاهر لمناصرة إخواننا في غزة صدًى في قلب الرجل، وقال هذه فرصة أن أنصر إخواني وألا أخذلَهم، فرصتي لأن أجد إجابةً لسؤال ربي: ماذا فعلت لإخوانك المسلمين في غزة؟ ولا عذر لأحد؛ فالكل يعلم حتى الحكومة المصرية قد رحَّبت بمجيئهم.

 

عزم الأستاذ محمد أن يستجيب لنداء مناصرة إخواننا في فلسطين؛ لأنه نداء الإسلام ونداء العروبة ونداء الإنسانية.. نداء الإسلام لينصر إخوانه المظلومين المستضعفين، ولينصر الأقصى؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين، ونداء العروبة؛ فعزة العرب عزةٌ للإسلام، بل ونداء الإنسانية الذي كرم فيه الله البشر وعظَّم حق الإنسان.

 

في الصباح ارتدى أستاذ محمد ملابسه وقبَّل يد أمه كعادته، وأخذ أبناءه في حضنه وقبَّل زوجته وقال لها إني ذاهب لمناصرة إخواني فادعوا الله أن يوفِّق مسعانا، وشيَّعته أمه وزوجته بالدعوات، وشيَّعه أطفاله بالطلبات، طالبين منه شيئًا من الحلوى والفاكهة كعادتهم.

 

وصل أستاذ محمد إلى ميدان التحرير بالقاهرة، وجد جموعًا غفيرةً من الشباب والرجال والكهول، كلهم يرفع صوته: "بالروح بالدم نفديك يا أقصى" ونظر فوجد جموعًا غفيرةً من الشرطة، فقال في نفسه: "الحمد لله أن جاءت الشرطة وجنود الأمن المركزي ليشاركونا مواقفنا ضد اليهود، وليحمونا من مشاغبات بعض المندسِّين أو بعض اللصوص"!!.

 

وفجأةً وبدون مقدِّمات سمع أصواتًا مدويةً وصرخاتٍ مستغيثةً، ووجد دخانًا كثيفًا يعلو المكان، ما إن وصل إليه بعض أثره حتى أخذته نوبةٌ شديدةٌ من السعال وشعر باختناق في صدره وألم في عينيه وأنفه، سأل نفسه "ما هذا؟" هل جاء اليهود ليحتلوا أرضنا؟! هل اعترضت أمريكا على موقفنا فهاجمتنا بالطائرات؟!

 

وقبل أن يعرف الأستاذ محمد الإجابة وجد من يقول له "اجري.. اجري"، فجرَى الأستاذ محمد مسرعًا، ولكنه تعثَّر ووقع على الأرض فنظر حوله وهو ممدَّدٌ على الأرض فشاهد ثلةً من جنود الأمن المركزي ووراءهم ضابط، فقال في نفسه: "الحمد لله لقد جاءوا لينقذوني"، وقبل أن يستغيث بهم سمع الضابط يقول: "أحضروا لي هذا الشخص بعد تأديبه"!!.

 

وبعدها انهال عليه جنود الأمن المركزي بالعصا والركل بالأقدام، صرخ أستاذ محمد: لماذا تفعلون معي هذا؟! رفع رأسه، نظر لأحدهم فوجد قسمات وجهه كلها تنبئ عن فلاَّح مصري، قد حرقت وجهه لفحات الشمس، وأزالت نضرة وجنتيه مرارة العيش، فقال له: "لماذا تفعل معي هذا؟ سأله الأستاذ محمد، ولكن ما من مجيب!!

 

ثم جاءت منه التفاتة نحو آخر يركله بقدمه فوجد علامة الصلاة على وجهه.. تعجَّب الأستاذ محمد قائلاً: "أين صلاتك؟ أين قولك "الله أكبر"؟ أتضربني وأنت تعلم أن الله أقدر عليك؟".

 

وحينما حاول أن ينهض الأستاذ محمد لمح أثناء نهوضه هذا الضابط الذي يعطيهم الأوامر غير سعيد بما يفعل، ولسان حاله يقول: "إنها الأوامر"، وتذكَّر أستاذ محمد آنذاك وصية أبيه إليه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وأي معصية أكبر من أن تضرب مسلمًا، خاصةً وهو يقول الحق.

 

ظل الجنود يضربون أستاذ محمد، ولم تشفع له صرخاته ولا آهاته.. أدمَوا وجهه، كسروا ضلعه، سجعوا جلده، سحلوا ظهره، تركوه بعد أن أصبح جثةً هامدةً لا يستطيع حراكًا، اقترب منه أحد المتظاهرين، ووضع يده على قلبه فوجده ما زال ينبض، فاستنجد بالمارَّة واتصل بالإسعاف، وحُمل الأستاذ محمد إلى أقرب مستشفى، فوجدوه قد أصيب بأزمة قلبية أدخلوه العناية المركزة على إثرها.

 

وفي بيته كانت زوجته قد فرغت من إعداد الطعام، وانتظر الأبناء أباهم، أما أمه فكانت تشعر بقلق عميق؛ حاولت أن تخفيَه عن زوجته، والتي كانت تعاني نفس الشعور، لكنها كانت تخفيه أيضًا عن حماتها، طال الانتظار وقالت "إيثار" إحدى بناته: "لقد تأخر أبي يا أمي!!"، وقالت "علياء" الابنة الكبرى ذات العشر سنوات: "لا تقلقي يا إيثار، إن أبي على وصول إن شاء الله"، بينما انشغل أحمد الصغير بالتقاط بعض الطعام ليتصبَّر من قبل أن يأتي أبوه.

 

ودقَّ جرس التليفون.. من؟! صرخة مدوية، محمد أين هو؟ قالت الأم: ماذا حدث؟ فقالت الزوجة محمد في المستشفى في العناية المركزة سأذهب إليه، صرخت الأم، بكى الأطفال!.

 

دخلت الزوجة على زوجها وراعها ما رأته.. كدمات على وجهه، دماء تنزف من أنفه، عيناه متورمتان، لم تتعرَّف على معالم وجهه، فقد ضاعت كلها خلف الكدمات والسحجات والجروح.. يداه ورجلاه لا يكاد يحركها، لا ينطق إلا بكلمات محدودة قائلاً: "حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل".

 

وبعد عدة أيام تحسَّنت قليلاً حالة أستاذ محمد، ونصحه الأطباء بالعودة إلى منزله؛ ليستكمل فيه العلاج، وبعدها يقومون بعمل قسطرة قلبية لعلاج الأزمة القلبية التي أصابته في هذه المحنة.

 

ظل الأستاذ محمد في منزله أربعة أيام يتألم مما ألمَّ به.. وأي شيء يؤلمه؟!

 

هل جروح بدنه أم جروح نفسه؟

 

هل عظامه التي كُسِرت أم نفسه التي قُهِرت؟

 

هل انسداد شرايين قلبه أم كسر إرادة نفسه؟

 

ماذا يؤلمه؟!!

 

هل مشهد جنود "إسرائيل" وهم يضربون أهل غزة؟ أم مشهد جنود الأمن المركزي وضبَّاطهم؟ وهم يضربون أهل مصر؛ أهلهم وأقرباءهم بغير ذنب ولا جريرة؟!

 

ظلت الآلام تتجمَّع على قلب الأستاذ محمد، وتعلو آهاتٍ مكتومةً وزفراتٍ مكلومة.

 

وفي يومٍ اشتاق الأستاذ محمد لصلاة الجماعة، أراد أن ينزل المسجد، لكن أبت عليه أمه وزوجته وقالتا له: "لا، صَّلِ بنا جماعةً في البيت"، وحانت صلاة العشاء، وتوضَّأ الأستاذ محمد واصطفَّ خلفه أطفاله وزوجه وأمه، نظر إليهم قائلاً: "استووا"، وكأنها نظرة وداع، لم يعلم الأستاذ محمد أنها النظرة الأخيرة.

 

دخل الأستاذ محمد في الصلاة تلا في أول ركعة قوله تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ (النساء: من الآية 75)، وفي الركعة الثانية تلا قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة: من الآية 51).

 

وكأن هذه الآية ألقت بظلالها في نفس أستاذ محمد، وكأنه شعر بعِمَالة الأنظمة العربية لليهود، لم يتحمَّل، لم يكمل الآية، وخرَّ مغشيًّا عليه.

 

صرخت أمه، صاحت زوجته، هلع أطفاله، وأقبلوا جميعًا عليه، ماذا حدث؟! لقد مات الأستاذ محمد، فقد عاودته الأزمة القلبية فمات على إثرها.. في هذ اللحظة خرجت روح الأستاذ محمد تشكو إلى خالقها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. تشكو تقاعس الأنظمة العربية وعمالتها.. تشكو جنود الحاكم الظالم "كلاب أهل النار" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.. تشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس.. تشكو ظلم الظالمين وجبروت المتجبرين!!.. خرجت روحه لتكون شاهدًا عند الله؛ شاهدًا بالخير لكل من وقف مع إخواننا في فلسطين، وشاهدًا على كل من وقف ضد تحرير غزة وفلسطين.. خرجت روحه تلعن الظلم والظالمين وتلعن من شاركهم ومن شايعهم ومن سكت على ظلمهم.

 

مات أستاذ محمد شهيدًا، فتمَّت له حسن الخاتمة، فقد استُشهد من أثر جراح أحدثتها له ضرباتُ جنودٍ مصريين ليسوا يهودًا محتلين..

 

استُشهد وهو يصلي لله رب العالمين.

 

هذه خاتمة الخير للأستاذ محمد حامد راغب من مواطني الفيوم ومدرس المواد التجارية، والأب لثلاثة أطفال هم: "علياء وإيثار وأحمد" الذي توفي يوم الإثنين 4/2/2008م.. هذه خاتمة رجل أخلص لله، فجاءته الشهادة تسعى إليه، نسأل الله أن تكون لنا مثل خاتمته.
وفي النهاية أسأل الجميع: من يتحمَّل دم هذا الرجل؟!

 

أهم مجموعة الجنود الذين ضربوه؟

 

أم الضباط الذين أمروهم؟

 

أم الحكام الذين أداروهم؟

 

أم أعضاء الحزب الحاكم الذي ساند هؤلاء الحكام وشجَّعهم؟

 

أم الساكتون عن نصرة المظلومين، الراغبون في عيش ذليل؟!

 

أم هؤلاء جميعًا؟

 

اعلموا جميعًا أن محمد ليس نفسًا واحدةً، بل هو البشر جميعًا، ووزره كمن قتل الناس جميعًا.

 

وأقول لمن شارك بقتله بصورة مباشرة أو غير مباشرة: ويلكم من حساب الله يوم العرض عليه!! ويلكم من الحساب!! حيث من ﴿قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: من الآية 32).

 

وأقول لشباب الصحوة الإسلامية: أخلصوا لربكم؛ فطريق الحق لا بد أن يضاء بقناديل؛ هي أرواح الشهداء، وزيت هذه القناديل هي دماء المجاهدين وعرق الصابرين..

 

أسأل الله أن يتغمَّد شهيدنا برحمته، وأن يختم لنا بالخير أجمعين.