م. أحمد شوشة
حقائق وآمال:
إن دعوة الإخوان المسلمين على مدى هذا التاريخ الطويل من الجهاد المتواصل عملت على تجديد هذا الدين والمحافظة على وسطيته غضًّا رطبًا، كما أنزل على النبي الخاتم- صلى الله عليه وسلم–، ولقد تخرَّج في مدرسة الإخوان علماء ودعاة ومربون، انتشروا في بقاع الأرض يعلمون ويدعون ويربون، ويقيمون مؤسسات الهداية والرشاد– دعوية وتربوية واقتصادية واجتماعية وسياسية ورياضية... فكان من نتاج هذا الجهد أن قامت الصحوة الإسلامية المباركة، وتردَّد صوت الإسلام بشرائعه ومظاهره في أركان الأرض جميعًا.
ولكن ما زال الطريق طويلاً حتى تنهض الأمة نهضتها الكبرى، وذلك كما يقول الأستاذ البنا- عليه رحمة الله-: "ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين" (المؤتمر الخامس).
طريقنا:
إن المنهج الذي سارت عليه جماعة الإخوان المسلمين لإحداث هذا التغيير الهائل؛ هو منهج التغيير التربوي المتدرج، فنحن نقيم دينًا، ونتطلع أن يسود فينا ونحكم بمبادئه من عدل وشورى وحرية، وهذا يحتاج منا صبرًا جميلاً على السير في طريق طويل يؤدي بنا إلى تربية الأمة على تعاليم الإيمان والإسلام؛ حتى يكون لها يقين تتحرك به.
﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً (106)﴾ (الإسراء).
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)﴾ (الفرقان).
قول الأستاذ البنا- عليه رحمة الله-:
"وأما التدرج والاعتماد على التربية، ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف، ثم مرحلة التكوين وتميز الأنصار، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج" (المؤتمر الخامس).
طبيعة الطريق:
إن هذه الصحوة المباركة فاجأت خصوم الإسلام وأعداءه؛ فكان طبيعيًّا ومنطقيًّا أن يكون لهم عنيف، فتعرضت أمتنا عامة وجماعة الإخوان خاصة لضغوط هائلة تمثلت في تلك الأحداث الجارية في بلدنا والعالم من حولنا من نشر للفساد، وإفساد الأخلاق، ومحاربة التدين، ونشر الانحلال، وموالاة الأعداء، وقطع الأرزاق، وتلفيق القضايا للشرفاء والدعاة، وتغيبهم في ظلمات السجون سنوات طوالاً، وغير ذلك من المفاسد، ولكن لم يزد كل ذلك جماعة الإخوان إلا تمسكًا بطريقها ومنهجها الدعوي والتربوي؛ لأنه طريق الرسالات والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين وطريق ثبت نجاحه، رغم كل العقبات.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ (الصف).
يقول الأستاذ البنا- عليه رحمة الله-:
"أحب أن أصارحكم أن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها؛ ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات" ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت).
يقول -عليه رحمة الله-:
ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾ (الصف). فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟ (بين الأمس واليوم).
الإخوان والثورة:
إن هذا الدين هو دين الله عزَّ وجلَّ وإقامته وحفظه تكفل بهما ربنا عزوجل ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (9)﴾ (الحجر).
ولقد كانت سيرة الأنبياء والرسل وخاتمهم رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منهجًا لنا في كيفية إقامة الدين، ولقد سارت جماعة الإخوان على نهج القرآن والرسل عليهم السلام، فلم تحد عنه ولا كان لها أن تحيد عنه وهي دعوة الإسلام، ومجددة الدين في عصرنا هذا.
أما الطرق والوسائل التي ينادي بها البعض من قومنا– اليوم– لكي نعدل من خطتنا ومنهجنا، فإن ما يدعوننا إليه قد يكون صالحًا لقيام نظم وضعية أرضية ضيقة الأفق والمجال؛ ولكنها لا تصلح لقيام دين الله في الأرض، فإن قيام الدين لا يكون عن طريق الثورات والهياج الشعبي؛ ولكن عن طريق ٍ طويل شاق هو طريق الدعوة والتربية والتكوين.
﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف).
يقول الأستاذ البنا- عليه رحمة الله-:
"وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال، ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل سريع لهذه المشكلات؛ فسيؤدي ذلك حتمًا إلى ثورة ليست من عمل الإخوان ولا من دعوتهم؛ ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا من هذه النذر فليسرع المنقذون بالأعمال" (المؤتمر الخامس).
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي- رحمه الله- في قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل":
إن ملكت النفوس فابغ رضاها فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأسـ ـر فكيف الخلائق العقلاء؟
مصارحة:
إن جماعة الإخوان- بفضل وعون الله عزَّ وجلَّ- ستتحمل كل التضحيات- ونسأل الله عزَّ وجلَّ الثبات– حتى ترضى أمتنا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً، فيكون ذلك لها قولاً واضحًا وشعورًا صادقًًا وعملاً صحيحًا في واقع الحياة، عندها ستختار الأمة حكامها، وستفرض عليهم دستورها، وستطالبهم بالحرية والعدل والشورى والخلق والفضيلة، فتنهض أمتنا وترقى لتعيد مجدها التليد وتقف شامخة منتصرة على أعدائها مستعيدة مقدساتها محافظة على حياضها وحدودها.
يقول الأستاذ البنا- عليه رحمة الله-:
"أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقًًا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، وإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة" (المؤتمر الخامس).
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)﴾ (النحل).
أيها الأحباب: هذا هو طريقنا الذي تعلمناه من قرآننا وسيرة نبينا- صلى الله عليه وسلم- وحكمة أحداث التاريخ من قبلنا، وما كان لنا أن نحيد عنه أو أن نستبدل به غيره.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يمكن لدينه، وأن يرزقنا الثبات على الطريق حتى نلقاه إخوانًا على سرر متقابلين، اللهم آمين.
-------------
* كاتب هذا المقال من الإخوة المحكوم عليهم في القضية العسكرية رقم (2) لـ2007م.