• الفساد السياسي وكبْت الحريات أهم أسباب الهجرة
  • المحسوبية ونظام التعليم الفاشل دفع الآلاف للهروب من مصر
  • تفريغ الوطن العربي من الكفاءات هدف النظام العالمي الجديد

تمثل هجرة الكفاءات المصرية مشكلة معقدة, خاصة بعد الأرقام الكبيرة التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والتي أشارت إلى أن عدد المصريين المهاجرين وصل 824 ألفًا من الكفاءات المهاجرة هجرة دائمة إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وإستراليا، ويمثل العلماء وحدهم أكثر من 10 آلاف مهاجر في حين يتوزع العدد الباقي بين مجالات الطب والهندسة والعلوم الأساسية والزراعية والإنسانية. الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة: أسباب زيادة أعداد الكفاءات المهاجرة بهذا الشكل, وتأثير هذه الهجرة على التنمية والتطور الذي نطالب به في مصر, وهل للظروف السياسية والفساد الذي ينتشر في قطاعات الدولة دخل في استمرار نزيف العقول المصرية, وهل الأفضل أن تعود هذه الكفاءات إلى أرض الوطن أم تبقى في الخارج؟

هذه التساؤلات وغيرها ناقشها المؤتمر الذي نظمه مركز دراسات الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية على مدار يومين، وشارك فيه عدد كبير من المهتمين بهذا المجال.

في البداية أشار المؤتمر إلى أن أهم أسباب تزايد ظاهرة الهجرة هي الأسباب السياسية والاقتصادية، وتتركز الأسباب السياسية في الفساد السياسي في صورة المحاباة لعناصر معينة في تولي المناصب المرموقة:

عدم تقديم الدولة فرص عمل للشباب يوازي احتياجاتهم بسبب ظروف الاستقلال التي مرت بها معظم الدول النامية، استطاعت فئات معينة أن تصل إلى السلطة واتجهت للسيطرة على الحكم وتوجيه الاقتصاد بما يتماشى مع أهدافها الطبقية وعقليتها الاجتماعية ومن ثم تشكلت في معظم هذه الدول طبقة جديدة ابتعدت عن العلمية وأخذت تكرس جهودها ونفوذها من خلال ضرب حركات المثقفين وكبت الحريات, وفي هذا الإطار يقع الصدام بين رجال العلم والنظام الحاكم، الذي يتجه لممارسة مزيد من الكبت السياسي والإرهاب الفكري ويشكك في إخلاص العلماء وولائهم.

قيام نظام بيروقراطي جامد لا يسمح بالتغيير ولا يستجيب لرغبات وتطلعات المثقفين والشباب.

انعدام تقدير الكفاءات العلمية وتمييز فئات غير مؤهلة على النابهين من العلماء والمثقفين، وانعكاس ذلك على مكانتهم الاجتماعية وأحوالهم المعيشية.

أما العوامل الاقتصادية التي تؤدي إلى ظاهرة هجرة الكفاءات:

- قلة العائد المادي الذي يحصل عليه العاملون من مختلف الكفاءات العلمية والفنية، والأمر الذي لا يساعد على تحقيق الاستقرار النفسي لتلك الكفاءات.

- عدم توفير الإمكانات المادية التي تستلزمها إقامة معاهد للبحث العلمي وتوفير الوسائل العلمية والوسائل والأدوات التكنولوجية الحديثة, فحجم الإنفاق على البحث العلمي في مصر لايزيد عن 6.% من حجم الدخل القومي لمصر مقابل 2.2% في إسرائيل.

- تضاؤل إمكانية الاستفادة من الكفاءات العلمية نتيجة تزايد أعداد الخريجين وبقاء الأوضاع الاقتصادية متدنية مما يدفع الكثير من الكفاءات للهجرة؛ بحثًا عن ظروفٍ أفضل.

- إلحاق هذه الكفاءات بأعمال لا تليق بها ولا تتلائم مع تخصصاتها العلمية.

- الاعتماد المكثف على الخبرات الفنية والتقنية الغربية بحيث توفر السياسات فرص عمل للأجانب على حساب أصحاب الكفاءات من المواطنين.

اتهمت الدكتورة "علا أبو زيد" نائب مدير مركز الدراسات السياسية بجامعة القاهرة نظام التعليم في مصر بأنه السبب الرئيسي الذي أدى إلى هجرة هذه الأعداد الكبيرة من العقول المصرية, مشيرة إلى أن هذا النظام فاشل سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة أو حتى مدارس اللغات التي تدرس نفس المناهج بعد ترجمتها, بالرغم من امتلائها بالحشو واعتماد نظام التعليم على التلقين والحفظ، الأمر الذي يدفع أعدادًا كبيرة للفرار من هذا النظام العقيم.

ومن جانبه أكد الدكتور "خالد فهمي" أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك أن غياب الديمقراطية وكبت الحريات وما يرتبط بها من تزايد القمع والقيود والانتهاكات السافرة والمقنعة لحقوق الإنسان تؤدي إلى استمرار ظاهرة هجرة العقول, وطالب بإرساء قواعد ديمقراطية حقيقية- وليس التكالب على الالتحاق بلجنة السياسات بالحزب الوطني- وإتاحة الحريات والسماح بالعمل السياسي داخل الجامعات, مشيرًا إلى أن مصر لا ترحب بعودة أبنائها بعكس إسرائيل التي تشجع أبناءها على العودة وتوفر لهم المناح المناسب للابتكار والتطوير.

خسائر فادحة

واستعرض الدكتور "سويلم جودة" مدرس الاقتصاد بجامعة القاهرة فرع الخرطوم الآثار الاقتصادية لهجرة الكفاءات المصرية من خلال رصد عوامل الطرد والجذب للكفاءات المهاجرة، ومنها تحديد المناخ الطارد للكفاءات في المجتمع المصري والجاذب لها في المجتمعات الغربية لتحديد أوجه الاختلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مشيرًا إلى أن أهم الآثار الاقتصادية لهجرة العقول المصرية إلى الخارج العجز الحاد في الكوادر العلمية والفنية اللازمة لدفع عجلة التطور الاقتصادي والاجتماعي, وعدم حصول مصر على أي مردود مقابل ما أنفقته على إعداد وتأهيل كفاءاتها, النقص الحاد في الكفاءات المصرية، والذي تزيد حدته مما يؤدي إلى استقدام كفاءات أجنبية لدعم النشاط الاقتصادي بمصر فضلاً عن تناقص قدرة مصر على إعداد الكوادر المؤهلة للقيام بعمليات التنمية الاقتصادية وانخفاض المستويات التعليميمة نتيجة تناقص أعداد المؤهلين من أعضاء هيئة التدريس بالنسبة لعدد الطلاب.

ويضيف د. "سويلم" أن الأخطر من ذلك الوقوع في دوامة التبعية الاقتصادية والتكنولوجية للغرب وضعف الإنتاج العلمي والبحث المصري, كما أكد على الخسارة الكبيرة التي تتحملها مصر نتيجة هجرة كفاءاتها، والتي تتمثل في الاستثمار في التعليم تبلغ نحو 250 مليون جنيه خلال عام 1995، فضلاً عن خسائر كبيرة في مجالات أخرى مثل نقص رأس المال البشري الذي تعاني منه مصر، ونقص الطاقات الإدارية، فضلاً عن الخسارة العينية التي تمثل في معظم الممتلكات الخاصة للمهاجرين.

وطالب الباحث بضرورة وضع السياسات والإجراءات اللازمة لاحتواء هذه الظاهرة للحد من الخسائر وتحويلها إلى مكاسب من خلال الاستفادة من هذه الكفاءات خارج الوطن.

وتناولت الدراسة التي قدمها الدكتور "سعد حافظ" أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي تأثير العوامل الاقتصادية على هجرة الكفاءات، مشيرًا إلى أثر انخفاض مستويات الدخل والمعيشة على هجرة الكفاءات، خاصة أن مصر تصنف ضمن الدول المتوسطة في التنمية البشرية، ولا يتوقع أن يعيش نحو 10.3% من سكانها حتى سن الأربعين, ويزيد معدل الأمية عن 50% من إجمالى السكان، ويحرم 13% من المياه المأمونة, و12% من الصرف الصحي, ويعيش 23% من السكان تحت خط الفقر!.

وأشارت الدراسة إلى أن الأجور جامدة سواء في القطاعين الحكومي العام أو القطاع الخاص، بحيث لم يزد معدل نمو الأجور عن 1.3% سنويًا في حين تتراوح معدل الزيادة في الأسعار بين 3.3% و2.2%، وذلك في خلال الفترة من عام 1990 وتراوح معدل البطالة بين 8.2% و11.1% في ضوء البيانات الرسمية منخفضة التقدير.

أسباب الهجرة مستمرة

أما الدكتورة "اعتماد علام" أستاذ الاجتماع ووكيل كلية البنات جامعة عين شمس فقامت باستعراض لأهم نتائج الدراسة التي قامت بإجرائها على مجموعة من الكفاءات المهاجرة للخارج وكانت أهم هذه النتائج:

- تباين عوامل الطرد للكفاءات العلمية المصرية باختلاف المرحلة التاريخية, حيث احتلت العوامل السياسية والاقتصادية المرتبة الأولى في عملية طرد الكفاءات من المجتمع المصري خلال فترة الستينيات، لاسيما في أعقاب هزيمة 1967، في حين تراجعت هذه العوامل لتحل محلها عوامل أخرى مثل الشعور بعدم الأمان في العمل، وندرة فرص العمل في ظل تخلي الدولة عن تراجع الخريجين منذ عام 1974 وحتى بداية الألفية الثالثة.

- وسائل الجذب القومية في المجتمعات الغربية سواء كانت علمية أو مالية.

كما رصدت الدراسة استمرار المؤشرات السلبية في المجتمع المصرى التي أدت إلى هجرة الكفاءات ومن أهمها استمرار المعوقات الإدارية والاقتصادية داخل المجتمع المصرى وما تؤدي إليه من فساد وروتينية, بالإضافة إلى عدم التشجيع الذي قوبلت به محاولات بعض المهاجرين المشاركة في العملية الاقتصادية في مصر.

تخصصات إستراتيجية

وأكد الدكتور "عبدالسلام نوير" مدرس العلوم السياسية بجامعة أسيوط أن الوطن العربي يساهم في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أمريكا وأوروبا، فضلاً عن أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم بالرغم من أن المبعوث الواحد للدراسة يتكلف نصف مليون جنيه, مضيفًا أن الخسائر التي منيت بها البلاد العربية نتيجة هجرة الأدمغة العربية وصلت إلى 200 مليار دولار -حسب تقدير الجامعة العربية-، وفي المقابل يستفيد الكيان الصهيوني نتيجة هجرة عالية التأهيل تأتي إليه من شرق أوروبات وروسيا وبعض الدول الغربية.

ويضيف أن ثلثي إجمالي العلماء المصريين في الخارج يعمل في تخصصات حرجة وإستراتيجية كالجراحات الدقيقة والطب النووي والعلاج بالإشعاع، والهندسة الإلكترونية والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وتكنولوجيا الأنسجة، وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية. وفي العلوم الإنسانية فمعظم المهاجرين من تخصصات نادرة كاقتصاديات السوق والعلاقات الدولية.

المهاجرون يلجأون للدين

وأشارت دراسة الدكتورة "أمال عبدالحميد" أستاذ علم الاجتماع المساعد بكلية البنات جامعة عين شمس إلى أهمية الدور الحيوي الذي يلعبه الدين في تكيف المهاجر واستقراره في بلد المهجر، خاصة إذا كان المهاجر في نسق رأسمالي عالمي يتسم بالتعددية الثقافية, إذ يلجأ المهاجر إلى التمسك بدينه بشدة ويفعل ما يمليه عليه الدين من قيم ومعايير وممارسات ثقافية. وهذا يفسر تنامي الحركات الإسلامية في بلاد الغرب, وتلعب المراكز الإسلامية دورًا كبيرًا في هذا الإطار حيث تنتشر مئات المراكز الإسلامية، تقوم بنشر الوعي الديني وتعاليمه وممارسة الشعائر الدينية, وبالرغم من تخلي بعض المهاجرين عن هويتهم الثقافية إلا أن الخلفية الثقافية للمهاجرين كانت سببًا في استمرار القيم والمعايير الثقافية وتكريس اللغة القومية لدى عدد كبير من هؤلاء المهاجرين، الذين قاموا بنقل ذلك إلى الأجيال التالية. وتأكيدًا لذلك أوضح البحث الميداني الذي تضمنته الدراسة تمسك أغلبية المهاجرين بالقيم التقليدية التي نشأوا عليها في الوطن وفي مقدمتها القيم الدينية والأخلاقية.

وتؤكد الدكتورة "زينب عبدالعظيم" أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن مشكلة نزيف العقول تتزايد يومًا بعد يوم، حيث بدأت في الستينيات وتشير التقديرات إلى تصاعد خطير لهذه الظاهرة في الربع الأخير من القرن العشرين, وينتظر أن تتصاعد أكثر باشتداد العولمة وحرص الدول الصناعية على اقتناص العلماء والكفاءات من الدول النامية مع استمرار غلق حدودها في وجه غيرهم من المواطنين.

عدم العودة أفضل!

ولكن هل الأفضل أن تعود هذه الكفاءات إلى مصر أم تبقى في الخارج؟ هذا السؤال طرحته على الدكتورة "زينب عبدالعظيم" فأكدت رفضها لعودة المهاجرين، مشيرة إلى تجربة الهند التي تشجع على الهجرة ولكنها تستفيد من المهاجرين من خلال المنظمات الهندية التي تدفع الهنود إلى تقديم خبراتهم، أو من خلال شبكات الإنترنت التي تربط الهنود بعضهم بعضًا وبدولتهم من ناحية أخرى. كما أن السمعة التي يمنحها هؤلاء للهند كبيرة خاصة في مجالات الاتصالات والبرمجيات، فضلاً عن تشجيعهم على زيادة تحويلاتهم لبلدهم, وتؤكد الدكتورة "زينب عبدالعظيم" أن مصر تستطيع الاستفادة بأبنائها المهاجرين من خلال تلك الوسائل أفضل من عودتهم وصدمتهم بالواقع المصري الذي يزداد سوءًا، فضلاً عن عدم موافقة المهاجرين على العودة، الأمر الذي يفرض وضع سياسة واضحة للاستفادة من خبرات هؤلاء المهاجرين.

ومن جانبه أشار الدكتور "محمود عبدالفضيل" الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلى أن نزيف العقول بالرغم من أنه يُزيد من حجم التخلف إلا أن هناك نسبة مقبولة منه من خلال تدوير العلماء بأن يخرج العلماء المصريين للدراسة والعودة، وعودة العلماء المصريين في الخارج للاستفادة منهم، وبذلك يحدث تكامل علمي بين المصريين في الداخل والخارج، مطالبًا بضرورة وقف المزيد من نزيف العقول المصرية عن طريق توفير بيئة استقبال مناسبة علميًا واقتصاديًا.

وفي ختام المؤتمر أكد الدكتور "مصطفى كامل السيد" مدير مركز دراسات الدول النامية ضرورة تطبيق الديمقراطية بكافة أشكالها، وفي مقدمتها الديمقراطية السياسية والديمقراطية في أماكن العمل حتى تتاح للعلماء والباحثين الحرية في تنفيذ مشروعاتهم وأحلامهم دون قيود.

ودعا إلى تحسين مستوى دخل الباحثين وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات حتى لا يمثل الدخل المرتفع في الخارج إغراءً لهم لترك أوطانهم، مشيرًا إلى ضرورة التواصل مع علمائنا في الخارج بصفة مستمرة للاستفادة منهم وربطهم الدائم بالوطن.