بين الثالث عشر من ديسمبر عام 1987م وعام 2010م مسيرة ثلاثة وعشرين عامًا.. وهي مسيرة مفعمة بالأحداث ومليئة بالتضحيات والبطولات التي سطَّرها أبناء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في سجل القضية الفلسطينية.. فمنذ انطلاقتها وحتى احتفالها الإثنين الماضي بالذكرى الثالثة والعشرين لميلادها، تخوض تلك الحركة المباركة ملحمةً على كل الساحات، يفخر بها كل مسلم ويقف كل من يرقبها- من الأعداء والأصدقاء- مشدوهًا أمام عبقرية الأداء والإنجاز معًا.

 

وتستمد "حماس" رونقها وعبقريتها وحيويتها المتجددة من كونها "شجرة طيبة" يشكل الإخلاص بذرتها، فكان "أصلها ثابت" يستعصي على محاولات العدو وأزلامه اجتثاثها أو بترها... وكان" فرعها في السماء" يصيب الأقزام المنبطحين والمفرطين المهرولين بالرهق والأرق كلما حاولوا أن يطاولوها.. وقد روت حماس تلك الشجرة دومًا بأزكى الدماء.. دماء شبابها الطاهر وشيوخها الأجلاء، وفي مقدمتهم مؤسسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين، ولذا فإن ظلها لا ينقطع ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: من الآية 25).

 

والحركة الفتية التي بلغت اليوم ريعان شبابها لم تتوقف يومًا عن العمل والإنجاز داخل أتون الصراع، ولم تخلد منذ بزوغ فجرها المبارك إلى الراحة أو تتزحزح عن ساحة الوغى مع الصهاينة قيد أنملة، ولذا فقد اكتسبت خبرة واسعة وأثبتت نضوجًا مذهلاً عند تعاطيها مع الأحداث العسكرية والسياسية.

 

أولاً: على الصعيد العسكري.. تمكنت حماس مع شقيقاتها من منظمات الجهاد والمقاومة من إبداع معادلة "توازن الرعب" مع العدو الصهيوني، وقد تجلت تلك المعادلة بوضوح للمرة الأولى في تاريخ القضية الفلسطينية مع دخول حماس ساحة الجهاد.

 

فمنذ نشأة القضية الفلسطينية واحتدام الصراع العربي الصهيوني تمَّ الترويج لما عرف بنظرية "التفوق الإسرائيلي" ونظرية "الجيش الذي لا يُقهر" على أوسع نطاق حتى كاد الطرف العربي يقنع بها كقدر واقع، لكن انتصار الجيش المصري في العاشر من رمضان (أكتوبر 1973م) ضرب تلك النظريات في مقتل، إلا أنه عندما خرج الجميع من المواجهة كان لا بد من ضرب النظريات العسكرية الصهيونية التي بدأت تروِّج في الساحة مرة أخرى محاولةً إشاعة اليأس في جنبات عالمنا العربي، زاعمة أن الحل لن يكون إلا على طاولات الاستسلام.

 

وقد خاضت حماس عبر مسيرتها معارك حربية حقيقية- وما زالت- ضد العدو، وألحقت به من الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية والمجتمعية ما لم تلحقه الجيوش العربية مجتمعة عبر حروبها مع الكيان الصهيوني، وأن سجل عملياتها الاستشهادية يشهد بذلك، كما أن صمودها خلال الحرب الصهيونية الوحشية على غزة، ثم صمودها مع الشعب الفلسطيني ضد أشرس حصار في التاريخ؛ شاهدٌ كذلك.

 

ثانيًا: على الصعيد السياسي استطاعت "حماس" بناء جهاز سياسي لا يقل قوةً ووعيًا وبصيرة بالواقع والتحديات المحيطة بالقضية عن الجهاز العسكري، وقد خاض ذلك الجهاز معارك سياسية عديدة، حقَّق فيها نجاحات باهرة، وحافظ من خلالها على ثوابت الحركة ومبادئها في مواجهة الضغوط المستمرة؛ للإذعان لشروط الرباعية الدولية، والتي من أبرزها الاعتراف بالكيان الصهيوني وإلقاء السلاح وفض المقاومة كشرط- صهيو/ أمريكي- لإتمام المصالحة الفلسطينية؛ لكن ذلك الجهاز بحسه السياسي الراقي وقراءته الصحيحة لموازين القوى ومواقف الأطراف؛ تمكَّن من تفويت الفرصة ولم يرضخ لتلك الضغوط، كما تمكَّن عبر تاريخ حماس وبالتعاون مع الفصائل الوطنية الأخرى من تفويت الفرصة على "السلطة" المهرولة نحو سراب المفاوضات من تحقيق هدفها في الانفراد بالساحة الفلسطينية، وأصبح ما نشاهده اليوم مزيدًا من الانهيارات والإفلاس داخل السلطة مقابل مزيد من النضوج والقوة والانتشار لحماس.

 

والمعركة التي تخوضها حركة "حماس" منذ نزولها إلى ميدان السياسة بكثافة عقب تشكيلها للحكومة الفلسطينية في الخامس والعشرين من مارس 2005م جديرة بالتوقف والتأمل.. فليست المسألة فقط فوز حركة في الانتخابات ولا هي عملية تشكيل حكومة وما يكتنفها من مصاعب ولا هي معوقات في سبيل أدائها.. وإنما جوهر المسألة هو صراع الإرادات في خضم حرب حقيقية بين مشروعين تاريخيين ومصيريين... مشروع صهيوني يسعى للاستفحال والتوسع وابتلاع القضية الفلسطينية وإنهائها من الوجود.. ومشروع صمود فلسطيني يقاوم من أجل البقاء والوجود وتقوده "حماس" مع كل القوى الحية والمجاهدة على الساحة الفلسطينية.. هذا المشروع الفلسطيني المقاوم ليس وليد اليوم، وإنما وُلد مع الخيوط الأولى لـ"نكبة فلسطين"، وتناقلته كتائب الجهاد من أجل تحرير فلسطين جيلاً بعد جيل.

 

ومن يتوقف أمام وقائع الصراع منذ بواكير انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1919م حتى اليوم يكتشف إلى أي مدى جرى خداع انتفاضات المقاومة الشعبية عبر مشاريع سلام وهمية في شكل لجان تحقيق أو إعلان هدنة (خاصةً الهدنة الأولى في حرب عام 1948م) دون تحقيق أي مكاسب للطرف الفلسطيني، بل كان ما حدث مزيدًا من الخسائر في ميزان حقوقه من جانب وإطفاء لجذوة النضال من جانب آخر.. والسبب أن حركات المقاومة في ذلك الوقت لم تنغمس في ميدان السياسة وتدرك ألاعيب وخداع الصهاينة والقوى العالمية الداعمة لها فحدث ما حدث.

 

واليوم يختلف الوضع مع حركة "حماس" فقد هضمت تلك الحركة درس التاريخ جيدًا، واستوعبت تضاريس القضية الفلسطينية منذ نشوئها وتطورات مراحل الصراع فيها، ووعت جيدًا ما جرى عبر مسيرة تفاوض السلطة الفلسطينية مع العدو، وما تخللها من عقد اتفاقيات "سلام" منذ مدريد حتى الانهيار الأخير للمفاوضات، وهي مسيرة فاشلة؛ ولكنها للأسف ما زالت متواصلة!.

 

في التحليل الأخير فإن "حماس" اليوم تعي درس التاريخ والسياسة جيدًا، وبناء على ذلك فهي تخوض معركتها السياسية بإدراك ووعي من الطراز العالي، وتسطِّر ملحمة سياسية لا تقل إبداعًا عن ملحمتها العسكرية المشرّفة التي خاضتها عبر ثلاثة وعشرين عامًا.

 

وقد وضعت "حماس" لكيانها السياسي والعسكري أساسًا متينًا وعمقًا إستراتيجيًّا تمثل في ذلك المد الجماهيري الواسع بين أبناء الشعب الفلسطيني عبر مؤسسات المجتمع المدني. ولذلك فمن الطبيعي أن نقول: إن شجرة حماس غُرست وترعرعت بدايةً قي قلوب الجماهير الفلسطينية، ثم انطلقت من عمق المجتمع الفلسطيني، ومن المستحيل اقتلاعها.

 

من هنا لم يكن غريبًا أن تتوقع أجهزة المخابرات الصهيونية مبكرًا أن تكون لحماس السيطرة الفعلية على مجريات الأمور بعد غياب عرفات.. وقد نشر ذلك في التقرير الذي أعده مسئولون سابقون في أجهزة الاستخبارات الصهيونية ونشرته صحيفة (معاريف) في 11/12/2003م.

 

وإن كانت حماس غير معنية بمثل تلك التقارير، فمعركتها الوحيدة هي تحرير الأرض وليس البحث عن "السلطة" إلا أن ذلك التقرير لفت الأنظار مبكرًا، وقبل 7 سنوات، إلى قَدْر حماس لدى الصهاينة وإلى أي مدى بلغ هذا القَدْر.

 

لقد سمعنا في مراحل عدة من تاريخ القضية عن نضال "الميكروفونات" ونضال "الفنادق والغرف المكيفة" ممن حاولوا امتطاء القضية واحتكارها، حتى ظهرت "حماس" التي كوَّنت مع كل القوى الوطنية والإسلامية المجاهدة منظومة فريدة؛ ديدنها الجهاد على الأرض عسكريًّا وسياسيًّا، ولا ترضى بغير التضحية بالنفس بديلاً، وذلك ما يحيِّر ألباب الصهاينة وأعوانهم!.

-------------

* كاتب مصري- مدير تحرير "المجتمع" الكويتية