فؤاد الخفش

من محياه الجميل تنبعث في روح من التقاه ويلتقيه الحياة، ومن زنزانته الانفرادية التي أقسم سجانه أن لا يغادرها إلا جثةً هامدة، أو روحًا خاوية، وجسدًا بلا عقل، يرسل رسائل التصبير والتثبيت.

 

الصبر والجلد والقوة والإرادة والتحمل والثبات، وبريق النصر الذي يلمع من عينه، التي تخترق صباح مساء جدران زنزانته الانفرادية، التي فصَّلها المحتل له بالخصوص، ترسل برقيات التصبير لنا ولذويه ولمن أراد أن يرسم صورة الوطن، الذي لا تحاصره جدران، ولا تهزمه عصا السجان.

 

أحمد المغربي حكاية فلسطينية بامتياز، وصورة ناصعة البياض للمقاوم والثائر لمَن حمل البندقية والتحق بالجامعة وأسس أسرةً وبيتًا.. لمن عرف حدود فلسطين، لمن عرف لغة التفاهم مع المحتل، لمَن هبَّ لنصرة الأقصى في انتفاضة الأقصى، فقاتل بجلد وما وضع السلاح، وما رفع الراية البيضاء؛ لأن الحرب من وجهة نظره كر لا فر فيها.

 

من رأسه لأخمص قدميه مصاب بالرصاص والشظايا، التي كانت تلاحقه إلى أن استطاع العدو الوصول إليه وتقييده وسجنه واعتقاله، ومن ثَّم أسره وتعذيبه، فصبر وثبت وتحداهم في جولات التحقيق بدل المرة ألف مرة، فانتصر عليهم، وقال لهم: نحن أصحاب الحق وأصحاب الأرض.

 

أقسم له محققو الشاباك أنهم لن يتركوه، وأنهم سيدمرونه، وأنه سيكون أسير زنزانة انفرادية، وأنه سيخرج منها دون عقل ومجنونًا يتحدث إلى نفسه، فضحك واستهزأ بهم، لم يشأ أن يشرح لهم معادلة الحق والقوة ولا نظرية الإيمان والعقيدة والفكر في مواجهة الطغيان والباطل، قال لهم: الأيام دول.

 

أحمد المغربي حاكمه سجانوه بالمؤبد ثماني عشرة مرة فضحك للحكم الذي صدر بحقه، واستهزأ بالقاضي، وقال له: إن الحكم إلا لله. ومضى إلى زنزانته الانفرادية التي ما زال فيها من تاريخ اعتقاله في 27/5/2002م.

 

لم أبالغ حينما قلت: إن حكاية أحمد هي حكاية فلسطين كل فلسطين فيها رسم الثائر خريطة الوطن.. أحمد الذي تزوج في 24/12/2001 وبعد ثلاثة شهور هُدم المنزل، الذي جمع الزوجين، وأصبح أثرًا بعد عين.. هدم المنزل وطُورد الزوج، وباتت الزوجة هنادي تبتهل إلى الله أن يحميَ زوجها، وألا يمكن المحتل منه، وما إلا خمسة شهور أمضتها الزوجة بعيدة عن زوجها المطارد دون منزل حتى اعتقل الفدائي الثائر.

 

شهور قليلة أنجبت زوجة الأسير الثائر ابنها البكر محمود، متحملةً آلام المخاض وحدها، وزوجها يتجرع كأس المهانة من عدوه، زوجها يُعذب ويُشبح ويُضرب، وهي تُكابد آلام المخاض، وأتت تلك اللحظة التي صرخ فيها محمود معلنًا قدومه للحياة قائلاً: الثائر لا يموت، وراية الفرسان لن تسقط... شهيد يسلم فارسًا.. وأسير يلد ثائرًا.

 

لك أن تتخيل أن المرة الأولى التي تَمكَّن الثائر أحمد أن يرى ابنه الصغير كانت بعد ثلاثة أعوام من ولادته، يكفيك أن تضع نفسك مكان هذا الأسير المعزول في زنزانة انفرادية لا يعرف رسم ابنه ولا شكله ولا صوته، أبيض أم أسمر يشبهه أو يشبه أمه، طويل أم قصير، لا يعرف عنه شيئًا.

 

في كل ليلة يتخيله بشكل، ويرسم له صورة، ويسمح لخياله أن يرسم له ما شاء من صور، وأن يصوره كيف أراد، إلى أن أتت ساعة الزيارة بعد ثلاثة أعوام أتاه ذلك الطفل الصغير، وقد جهزته أمه بأجمل لباس، وصففت له شعره، ولقنته بعض الكلمات التي تعلم أنها ستثلج صدر أبيه، نظر إليه أحمد فشاهد فلذة كبده تمشي على الأرض، الخجل يسيطر عليه، وإجراءات الأمن تملأ جنبات المكان، ومحمود الذي لا يعرف أباه حتى الصورة التي تعلقها أمه في غرفته غير الحقيقة، تقدم لأن هناك من كان يقول له هذا أبوك.

 

وقف الأب أمامه وفي صدره نار تشتعل، وقوة قادرة على تدمير الزجاج الذي يحول بينه وبين كبده يبتسم له يضع الطفل السماعة على أذنه، ويسمع كلام أبيه ولا ينطق ببنت شفه، يقول له أنا بابا محمود حبيبي أنا بابا، أنت تعلم أني أنا بابا، أنا بحبك محمود بدي اشتري لك هدايا، كيف ماما؟ محمود لا يحرك ساكنًا، حاول وحاول أحمد المعزول أن ينتزع كلمة واحدة من محمود ولكن كيف لطفل لم يتجاوز الثلاثة أعوام تعرض لتفتيش قاسٍ أن يعرف من هو أمامه، وأن يبادله المشاعر والحب بحب.. صمت أحمد وبدأ يتفقد جسده من خلف الجدار السميك لباسه عيونه حذاءه شعره عيونه لسانه الذي كان لا يخرجه من الخجل.

 

يبتسم له يحاول أن يثبت نفسه، يهدئ من روعه، وأخيرًا ابتسم محمود لأبيه، وقال له: بابا أنا أحبك. نار اشتعلت في قلب الرجل، ودموع تلألأت من عيون الثائر، وغصة بالصدر حدثت، وإذا بصوت السجان يخرج معلنًا انتهاء الزيارة.

 

ذهب محمود، وعاد أحمد يجلس في زنزانته يغمض عينيه وأذنيه لكي يثبت صورة محمود وصوت محمود في ذاكرته.

 

هذه حكاية فلسطين ومشهد صغير من حياة الثائر المعزول منذ اعتقاله، والتي تجاوزت الأعوام الثمانية ، تمكَّن مرة واحدة من رؤية والدته، ولم يسمح للزوجة الصابرة من الالتقاء بزوجها المجاهد ولا مرة، والتي هدم منزلها مرتين؛ لأن المحتل لم يشفِ غليله من أحمد بعد هدم المنزل مرتين، وحكمه بمدى الحياة وعزله الانفرادي، وحرمانه من رؤية ذويه، كل هذا لم يشفِ غليل الاحتلال.

 

هي حكاية فلسطين يرسمها الثائر أحمد بصبره، وصبر زوجته التي تحدت الصعاب، وأكملت دراستها العليا لتحصل على الماجستير، وتربي فلذة الكبد، وتعلن أنها صابرة مصابرة متسمرة في انتظار أحمد؛ لأن فجر حريته بات قريبًا.

 

اعذرني أحمد لأني لم أوفيك حقك، ولكنها أنات من سمع عنك ما يجعله يشعر بالفخر والافتخار؛ لأنه من وطن فيه أمثالك من الرجال الذي عشقوا الوطن دون انتظار مقابل.

----------

* كاتب وباحث مختص في شئون الأسرى الفلسطينيين