صباح ٢٦ مايو الماضي، خرجت علينا جريدة "الأخبار" باعتراف خطير لعمر سليمان مدير المخابرات العامة السابق، الذي عيَّنه "مبارك" في أيامه الأخيرة نائبًا له، ومنحه صلاحياته شهد فيه- أمام جهات قضائية- بأن الرئيس السابق كان على علم بتفاصيل قتل الثوار، وقال إن "مبارك" كلف القوات المسلحة والمخابرات العامة بمتابعة المظاهرات وبوقف المتظاهرين، وأنه- أي سليمان- كان يتلقى التقارير كل ساعة من حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق، وينقلها فورًا إلى "مبارك"، وأوضح أن التقارير كانت تتضمن كل عمليات إطلاق الرصاص الحي والمطاطي على المتظاهرين، وأن مبارك كان على علم كامل بكل رصاصة أطلقت على المتظاهرين وبأعداد من سقط، سواء شهيدًا أو جريحًا وحتى الشهداء الأطفال، وبكل التحركات العنيفة للداخلية في التصدي للمتظاهرين، ودهسهم بالسيارات وتفريقهم بالقوة، وأنه لم يعترض على أي من هذه الإجراءات، الأمر الذي يؤكد موافقته الكاملة عليها ومشاركته فيها.

 

إلى هنا ينتهي الخبر.. المثير للدهشة أن تصريح عمر سليمان البالغ الأهمية هذا لم يلق اهتمامًا يتناسب مع جسامته أو مع مكانة صاحبه أيام حكم "مبارك"، الأمر الذي يشكك في أن هناك توافقًا عامًّا في الإعلام المصري قوميًّا وخاصًّا على التعتيم على التصريح أو أن هناك تعليمات صارمة بالتوقف عن تحليله ومتابعته.. الأكثر إثارة أنه بعد أن أدلى "سليمان" بهذا الاعتراف توارى تمامًا عن الأنظار حتى كان يوم الخميس الماضي عندما نشرت عدة صحف نقلاً عن "مصدر مسئول قريب منه"، أنه يتفرغ حاليًّا لحياته العائلية ولا يمارس أي عمل سياسي أو عسكري، وأنه ينفى تمامًا ترشحه للرئاسة.

 

بهذا التصريح الأخير للمصدر المسئول، الذي لم يكشف عن هويته، يبدو أن عمر سليمان أراد وحده أو مع جهة ما في السلطة أن يستأذن في الانصراف، وأن المطلوب منا الآن أن نطوي صفحته ونسقطه من ذاكرتنا تمامًا، بعد أن انتهت مهمته في الحياة العامة.. إلا أن الأمر لا يمكن أن ينتهي بهذه البساطة التي يظنها الرجل الغامض، فنحن نريد أولاً أن نعلم ما إذا كانت اعترافاته في مايو أمام ما يسمى الجهات القضائية تشتمل على تفصيلات تزيد على ما نشر وقتها في "الأخبار"، وما هي هذه التفصيلات إن وجدت؟.

 

هل اقتصرت شهادته على قمع ثوار يناير أم أنها تناولت مسائل أخرى تتعلق بأحداث جرت أثناء الثورة أو قبلها أو بعدها؟.. هل تعرض عمر سليمان إلى وقائع حدثت في السنوات التي تولى فيها منصب مدير المخابرات العامة بين يناير ١٩٩٣ ويناير ٢٠١١م، في ظل حكم "مبارك" الذي كان حافلاً بالأسرار والمآسي؟.. هل سئل عن هذه الأحداث أم لم يسأل؟.

 

هل هي شهادة أم اعتراف؟.. وماذا كانت صفته: شاهدًا أم متهمًا؟.. ومن الذي سأله بالضبط؟.. ما هي تلك "الجهات القضائية" التي أدلى بأقواله أمامها، هل هي النيابة العامة أم أنها جهات أخرى؟.. وأين تم الإدلاء بالأقوال، في مكان خاص أم في مقر رسمي؟.. هل هذه الأقوال موثقة في محضر، وما هو رقم وتاريخ هذا المحضر؟.. وهل تمت في حضور محاميه؟، وهل استكملت بشهادة شهود؟.. وماذا كان تصرف الجهة التي استمعت للأقوال؟.. وماذا تم بشأنها بعد ذلك؟.. إلى من أحيلت، وبأي غرض؟.

 

عمر سليمان هو أطول رؤساء المخابرات عمرًا في هذا المنصب، وهو على نحو ما وصفه الأستاذ محمود الضبع في "صوت الأمة" "الصندوق الأسود" لـ١٨ سنة من عصر "مبارك".. وإذا كانت محاكمة مبارك العلنية العاجلة العادلة تتصدر مطالب الثوار على نحو ما تأكد في مليونية الجمعة الماضية، فهو ولا شك الذي يجب أن يكون الشاهد الشريك الأول في هذه المحاكمة، إذ لا بد أنه كان هناك دائمًا كلما وقعت أي واقعة، ولا بد أنه يحتفظ حتى الآن في مكان ما بكل المعلومات والوثائق والمستندات والصور والتسجيلات المتعلقة بكل ما سوف يثار في قاعة المحكمة، فهو بحكم موقعه كان شاهدًا شريكًا على أهم الأحداث الخاصة بسياسة مصر في الخارج، وبما يحدث في الداخل أيضًا.

 

وفي هذا، يقول الصحفي البريطاني الشهير ستيفن جراي في كتابه "الطائرة الشبح": "إن عمر سليمان لم يكن حلقة الوصل بين المخابرات المصرية والمخابرات الأمريكية فقط، بل كان "قناة الاتصال الأساسية بين الإدارة الأمريكية ومبارك في كل الشئون، أمنية وغير أمنية".

 

وكان "سليمان"، أيضًا المكلف بملف العلاقات مع إسرائيل مع غيره من الملفات التي تسلمتها المخابرات العامة من وزارة الخارجية بدعوى أنها شئون أمنية قبل أن تكون سياسية، مثل ملفات السودان والعراق واليمن وغيرها.. إلا أن ملف إسرائيل كان ولا شك أخطر هذه الملفات.

 

وهنا، فإن لدى عمر سليمان ما يشهد به على الصلات الحميمة بين مبارك والإسرائيليين الذين كانوا يعتبرونه كنزًا إستراتيجيًّا لهم.. ولكنه ليس شاهدًا فقط، وإنما شريك أيضًا.. وقد كشف موقع "ويكيليكس"، نقلاً عن مصادر إسرائيلية، أن "سليمان" كان يتواصل مع إسرائيل عبر هاتف أحمر، وأن هذا الخط الساخن كان يستخدم يوميًّا، كما كشف أنه كان شخصية محورية في ترتيب صفقة الغاز الشائنة مع إسرائيل، وكشف كذلك أنه تعهد لإسرائيل بتطهير سيناء من مهربي الأسلحة.. وكان من أخطر ما أورده موقع "ويكيليكس" أن عمر سليمان كان دائمًا مرشح إسرائيل المفضل لرئاسة مصر ومرشح أمريكا أيضًا.

 

وعندما كلف بتولي مهام الرئاسة أثناء الثورة قال وزير شئون الاستخبارات في إسرائيل دان مريدور- وفقًا لما نقلته الإذاعة العبرية- إنه "رغم التوقعات السوداوية التي تسود لدينا فإن الأمل الوحيد الذي نتعلق به هو أن تئول الأمور في النهاية إلى السيد عمر سليمان، فتجربة العلاقة بيننا وبين هذا الرجل تجعلنا نؤمن بأن العلاقات (المصرية- الإسرائيلية) في عهده ستكون أكثر رسوخًا مما كانت عليه في عهد الرئيس مبارك".

 

أما فيما يتعلق بالشأن الداخلي، فإن أحدًا لا يساوره شك في أن عمر سليمان كان شاهدًا على القرارات المصيرية التي اتخذها "مبارك" لإدارة شئون البلاد وشريكًا فيها.. وكثيرًا ما كنا نراه- عادة إلى جانب رئيسي مجلس الشعب والشورى ورئيس الوزراء ورئيس الديوان والوزراء المعنيين- في معظم الاجتماعات التي كان يعقدها "مبارك" لبحث القضايا المهمة.

 

وهكذا، فقد كان شاهدًا شريكًا في إفساد الحياة السياسية، بما في ذلك مشروع التوريث والتعديلات الدستورية وتزوير الانتخابات، وكان شاهدًا شريكًا في جميع إجراءات القمع التي سلبت الحريات، وفي جميع المصائب التي انصبت على رءوس المصريين من جرّاء السياسات التي أفقرتهم، وبددت مواردهم، ونالت من صحتهم ومن تعليمهم ومن زراعتهم وصناعتهم، ومن المؤكد أنه- بحكم انفراده بصلاحية مراقبة تليفونات رئاسة الجمهورية ومراقبة العاملين فيها- يعرف كل أسرار سرقة أسرار مصر، وأين هرّب مبارك وعائلته هذه الثروات".

 

عمر سليمان إذن شخصية محورية بالغة الخطورة والتأثير في عصر "مبارك".. وتزيد من خطورته هالة الغموض التي أحاطته طوال توليه منصبه مديرًا للمخابرات وحتى أيامه الأخيرة.. وأقصى ما عرفه الناس عنه هو اكتشافهم شخصية الرجل الذي كان يقف وراءه عندما كان يتلو، بأسى بالغ، بيان تخلي "مبارك".

 

أما هو ذاته فقد ظل صندوقًا مغلقًا كملامح وجهه الجامدة.. وزاد من غموضه هذا ما اكتنف حادث محاولة اغتياله بإطلاق الرصاص على سيارته يوم ٢٤ فبراير، الذي كشف عنه وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط، وهو الحادث الذي تمَّ التعتيم عليه، ولم يبادر أي مسئول بتوضيح ملابساته وأسبابه للمصريين منذ ذلك اليوم وحتى الآن.

 

عمر سليمان ليس "بقرة مقدسة".. وهو لا يملك بقرار شخصي منه أن يلملم أوراقه وينجو بنفسه.. الذين خرجوا في جمعة ٨ يوليو يطالبون بتطهير الحكم ينتظرون من النائب العام أن يقدم عمر سليمان للعدالة.

------------------

* نشرته "المصري اليوم" في 11/7/2011م.