ترحيب واسع عبرت عنه منظمات حقوقية، مصرية وأجنبية، في أعقاب قرار المفوضية العامة لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة إرجاء تنظيم "مؤتمر تعريف وتجريم التعذيب في التشريعات الوطنية في المنطقة العربية"، والذي كان مقررا تنظيمه بالقاهرة يومي 4 و5 سبتمبر المقبل 2019م.
المنظمات الحقوقية اعتبرت تأجيل المؤتمر لحين اختيار مكان بديل للقاهرة لسجلها المتخم بانتهاكات حقوق الإنسان تصحيحا لوضع خاطئ، وتقول الأمم المتحدة: إنها تبحث عن موعد ومكان جديدين لعقد المؤتمر، بعد أن واجهت انتقادات بشأن اختيار القاهرة لعقد المؤتمر.
يقولالكاتب الصحفي وائل قنديل: "بوضوح شديد، قدّم السيسي، لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة كل الأسباب اللازمة لكي تشعر بالخجل من المضي في عقد مؤتمر حقوقي ضد التعذيب، في عاصمة التعذيب؛ إذ لا تكفي هنا محاولات المتحدّث باسم مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، روبرت كولفيل، تبرير اختيار القاهرة بالقول: إن "هناك قيمة كبيرة لعقد لمحاولة الحد من التعذيب في بلدٍ يقع فيها التعذيب".
ويضيف قنديل: "بالطبع، لا يقنع هذا الكلام الإنشائي أحدًا، ذلك أن الأمم المتحدة تدرك أن التعذيب في مصر هو من المعلوم بالضرورة، ومناهضته تتطلب شيئًا آخر غير مكافأة النظام المصري بعقد مؤتمر دولي يبدأ بخطبة طويلة لحاكم دولة التعذيب، يردّد فيها محفوظاته المملة عن حربه على الإرهاب، حماية للإنسان الأوروبي من خطر الإنسان المصري المعارض، الذي يأتي في درجة أقل. ولو كانت ثمّة إرادة أممية في مناهضة التعذيب فعلا لفرضت الأمم المتحدة تشكيل لجنة دولية تزور السجون، وتستمع إلى المعتقلين وذويهم، وتجري تحقيقًا دوليًا في الفظائع التي تتضمنها تقارير المنظمات المعنية بحق الإنسان في الداخل والخارج".
ولا شك أن أحد الأسباب المهمة لرفض المنظمات الحقوقية انعقاد المؤتمر بالقاهرة أن نظام الانقلاب كان سيوظف انعقاد المؤتمر بالقاهرة في محاولة تبييض صورته المروعة في سجل حقوق الإنسان؛ يقول جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان: إن هذا المؤتمر "يمثل محاولة لتبييض وجه النظام الذي يمارس جرائم التعذيب والإخفاء القسري بصورة ممنهجة".
مضيفا أن المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي كان شريكا محليا لمفوضية الأمم المتحدة في هذا المؤتمر "هو شريك للنظام في انتهاك حقوق الإنسان، وأنه لو كان هدف مجلس حقوق الإنسان إصلاح الملف ومناقشة أخطاء الحكومة فكان عليه دعوة المنظمات الدولية، والمحلية، والسماح لها بحضور المؤتمر والمشاركة الفعالة فيه"، وهو أمر لم يحدث على الإطلاق كما يقول.
وبحسب الناشط العلماني القبطي الموالي للانقلاب وعضو القومي لحقوق الإنسان، جورج إسحاق، فإن تأجيل المؤتمر لحين اختيار مكان جديد "يمثل طعنة للنظام" قائلا: "الإلغاء يضر بمصر ضررا بالغا جدا في المجتمع الدولي"، في إشارة إلى أن قرار التأجيل يمثل إقرارا أمميا بتفشي ومنهجية التعذيب في مصر برعاية الانقلابي المجرم عبدالفتاح السيسي وقادة أجهزته الأمنية.
مساحيق تجميل!
وكان نظام العسكر قد بدأ في 2018 اتباع سياسة خلق مساحيق تجميل لتحسين صورته خارجيا في ظل سمعته السيئة في ملف حقوق الإنسان، بناء على نصائح من مستشارين موالين للنظام الشمولي؛ ليس بهدف تحسين الوضع الحقوقي، بل لتحسين صورة النظام الانقلابي أمام العالم مع بقاء الانتهاكات كما هي، وربما تشهد في ذات الوقت تصعيدا في معدلات الانتهاكات وصورها فهي إذا مساحيق تجميل تستهدف اللقطة والصورة لا معالجة جوهر الأزمة وأصل المرض.
ومن هذه الخطوات:
أولا: قرار الحكومة الانقلابية برئاسة مصطفى مدبولي إنشاء لجنة حقوقية دائمة لحقوق الإنسان، ونص القرار الذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ الأربعاء 14 نوفمبر الجاري، على أن تنشأ لجنة عليا دائمة لحقوق الإنسان تتولى إدارة آلية التعامل مع ملف حقوق الإنسان "والرد على الادعاءات المثارة ضد جمهورية مصر مصر العربية بشأن حقوق الإنسان".
ثانيا: الموافقة على تعديل قانون "الجمعيات الأهلية"؛ حيث أعلن جنرال الانقلاب خلال منتدى شباب العالم الذي أقيم في مدينة شرم الشيخ في الفترة من السبت 03 نوفمبر حتى الثلاثاء 06 نوفمبر 2018، عن موافقته على إعادة النظر في القانون الذي ووجه بانتقادات حادة قبل وبعد صدوره، مقرا بأن القانون خرج به عوار، مبررا ذلك بوجود تخوفات أدت لخروجه بهذه الصورة!.
وبالفعل صدق جنرال العسكر على القانون الجديد بعد تأجيل الأمم المتحدة للمؤتمر؛ حيث كان يستهدف الإعلان عن القانون المعدل خلال فعاليات المؤتمر لتجميل صورته، رغم ما بالقانون الجديد من عيوب ومساوئ تهمش العمل الأهلي وسمعة النظام الانقلابي في انتهاك الدستور والقانون معروفة، فالعبرة ليست بالقوانين بقدر ما هي غياب الإرادة السياسية عن وقف الانتهاكات والتعذيب.
ثالثا: رئاسة القاهرة للشبكة العربية لحقوق الإنسان، وهو ما تم فعلا يوم السبت 27 من أكتوبر الماضي 2018م، ورغم أن الشبكة تعبر عن النظم العربية فإن ذلك يمثل مسعى من جانب النظام الانقلابي نحو تجميل صورته المشوهة والعمل على الحد من الانتقادات الحقوقية التي تحاصره من كل مكان.
والشبكة العربية هي الحاضنة الأم لكل المؤسسات الرسمية العربية، مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وباقي المجالس المماثلة له في الدول العربية، وبالتالي فهي تمثل رغبات الحكومات أكثر من تطلعات الشعوب.
رابعا: انعقاد اللجنة العادية للجنة الإفريقية لحقوق الإنسان في القاهرة يناير الماضي، وهو ما دفع "65"منظمة حقوقية مصرية غير حكومية إلى انتقاد الموقف الإفريقي، وبعثوا برسالة إلى سوياتا ناوغا، رئيس اللجنة، مطالبين بإعادة النظر في القرار. لكن اللجنة الإفريقية تجاهلت هذه الانتقادات.
وبناءعلى ذلك، كان تنظيم مؤتمر الأمم المتحدة حول "تجريم التعذيب" بالقاهرة حلقة جديدة من حلقات مساحيق التجميل لتحسين صورة النظام دوليا، حتى لو بقيت الانتهاكات أو تصاعدت وتواصل إفلات الجناة والمتورطين في القتل خارج حدود القانون والتعذيب الممنهج والإخفاء القسري من العقاب والمساءلة برعاية النظام الانقلابي.
وربما كان فقدان اللقطة أمام كاميرات شاشات العالم هو الشيء الذي خسره سفاح العسكر بتأجيل المؤتمر حتى اختيار مكان بديل وهو بكل تأكيد يمثل طعنة لنظام انقلابي يدمن اللقطة والصورة على حساب الحق والحقيقة.