قبل 5 سنوات، تمكن قائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي، في سبتمبر 2014م، من جمع 64 مليار جنيه في شهادات قناة السويس لتمويل مشروع التفريعة الجديدة للقناة، وفي سبيل إغواء المواطنين بالاستثمار في هذه الشهادات رفعت سلطة الانقلاب سعر الفائدة عليها "الربا" إلى 12%، بينما كانت أعلى معدلات الفائدة وقتها في جميع البنوك لا تزيد عن 10% فقط.

كما أغرى الانقلابي رئيس هيئة قناة السويس المستثمرين في هذه الشهادات، مدعيًا أن التفريعة الجديدة سوف تدرُّ عليهم "المنّ والسلوى" وأرباحًا تصل إلى 100 مليار دولار سنويًّا، ثم تراجع عن هذه الشطحات التي لا تستند إلى أي دراسة جدوى أو معايير اقتصادية؛ ليؤكد أن التفريعة الجديدة سوف ترفع إيرادات قناة السويس إلى 13.2 مليار دولار في سنة 2023م.

كلمة حق عند سلطان جائر

في هذه الأثناء، حذر خبراء اقتصاد من عدم جدوى هذا المشروع، وأن الأولى توجيه هذه الأموال الضخمة إلى مشروعات إنتاجية، تسهم في توفير الآلاف من فرص العمل، أو تشغيل المصانع المتعثرة، لكن سلطة الانقلاب كابرت واستكبرت ومضت في ضلالها غير عابئة بهذه النصائح الغالية.

وقتها وقف د. محمود شعبان فوق المنبر، محذرًا من هذه الشهادات، ومؤكدًا حرمتها شرعًا وأنها ربا محض، وقد حذر الله من الربا (يا أيها الذين آمنوا اتقوا وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)، وتساءل الشيخ: كيف تصرف أرباحًا لأصحاب هذه الشهادات والمشروع نفسه لم يدرّ ربحًا بعد؟! ومن أدراكم أنها سوف تحقق أرباحًا من الأساس؟

وبعدها تم اعتقال الشيخ بمجرد خروجه من استوديو قناة "دريم" بعد استدراج وائل الإبراشي إياه، ومكث الشيخ الداعية في سجون العسكر سنوات، ثم خرج عدة شهور وأعادوا اعتقاله من جديد؛ بلا تهمة سوى الصدع بالحق في وجوه الظالمين.

يمحق الله الربا

اليوم وبعد مرور السنوات الخمس، تستعد عصابة العسكر لسداد هذه الأموال، بدءًا من 4 سبتمبر المقبل، فهل حققت التفريعة الأرباح المتوقعة منها؟ وهل حقق المرابون في هذه الشهادات أرباحًا عاليةً كما طمعوا وراهنوا؟ فلا التفريعة حقَّقت الأرباح التي وعدوا بها (100 مليار دولار سنويًّا ولا حتى الـ13.2 مليار دولار) ولا المرابون بشراء هذه الشهادات حققوا أرباحًا من ورائها! بل العكس هو الصحيح، فالخسارة أصابت بسهمها الجميع.. كيف حدث ذلك؟

أولاً: خسر المرابون في هذه الشهادات كثيرًا من أموالهم؛ فقد كان الدولار وقتها بـ8 جنيهات وبعدها ارتفع إلى 20 جنيهًا ثم تراجع إلى 18 فترة طويلة ثم 17 جنيهًا بتدخلات سرية من البنك المركزي لحماية الجنيه من الانخفاض، وأدى إصرار سفيه العسكر على المشروع - رغم التحذير منه وعدم جدواه - إلى إجبار حكومته على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م وتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأخرى، فارتفع الدولار إلى مستويات قياسية وتراجعت قيمة الجنيه بحدة.. هذه التحولات دفعت البنوك إلى طرح شهادات استثمار جديدة بفائدة 20%، وبذلك تراجعت ميزة شهادات التفريعة والتي كانت الأعلى لتصبح الأدنى، وهو ما دفع حكومة الانقلاب إلى رفع قيمة الفائدة على هذه الشهادات من 12% إلى 15.5% ولكن ارتفاع معدلات التضخم بصورة أكبر جعل هذه الزيادة بلا قيمة تذكر.

ثانيًا: "المحق" الذي توعّد به الله لم يتوقف عند المودعين، بل امتد إلى القناة الرئيسة نفسها، فقد فوجئ الجميع بتراجع إيرادات القناة في عام افتتاح التفريعة 2016، لتبلغ 5 مليارات دولار مقابل 5.17 مليارات في العام 2015، و5.46 مليارات في العام 2014، كما تراجعت في 2017، ولتعظيم الإيرادات بعد ذلك، منحت إدارة القناة خصومات ضخمة تصل أحيانًا إلى 75% لناقلات النفط العملاقة، المحملة أو الفارغة، وهو ما أدى إلى زيادة الإيرادات إلى 5.7 مليارات دولار في 2018، وأسهم في الزيادة أيضًا ارتفاع أسعار النفط وعودة السفن العملاقة للمرور في القناة بدلاً من رأس الرجاء الصالح. ورغم هذا التحسن الذي جرى في العام 2018 فإن رقم الإيرادات يقل كثيرًا عن الرقم الذي وعد به المصريون، ولا تزال إيرادات القناة ضعيفة في 2019، وبحسب اللواء خالد العزازي، مستشار رئيس هيئة القناة، فإن الزيادة طفيفة تقدر بنسبة 3.4% فقط عن العام الماضي، مقارنة بالتوسعات الكبيرة وإنفاق 8 مليارات دولار على مشروع التفريعة. ويعزو أسباب ذلك إلى ما أسماها ظروفًا عالمية وركود حركة التجارة الدولية.

ثالثًا: ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقط، بل امتد إلى مرحلة جديدة تمثلت في ضعف القدرة على سداد مديونيات مستحقة على هيئة قناة السويس للبنوك، ودخول حكومة الانقلاب - ممثلة في وزارة المالية - على الخط لسداد أقساط الديون المستحقة على الهيئة لصالح بنوك حكومية، بإجمالي 600 مليون دولار، كما تأخرت هيئة قناة السويس عن سداد 450 مليون دولار تمثل ثلاثة أقساط تُستحق في ديسمبر 2017، ويونيو 2018، وديسمبر 2018. ووافقت البنوك الدائنة، في إطار بروتوكول موقّع مع وزارة المالية بحكومة الانقلاب، على ترحيل مواعيد استحقاق الأقساط المستحقة على الهيئة لمدة عامين.

وبناء على هذه الأرقام، يتساءل البعض: أين إيرادات قناة السويس البالغة نحو 5 مليارات دولار سنويًّا؟ ولماذا تعجز القناة عن سداد 600 مليون دولار للبنوك؟ وهل ستسدد هذه الديون من الخزانة العامة؟ وماذا عن الــ64 مليار جنيه التي تم إنفاقها على التفريعة "الشؤم" والتي يبدأ سدادها خلال أيام قليلة؟

أمام هذه الكوارث الجمَّة تتواتر أنباء عن توجهات سلطة الانقلاب نحو خصخصة هيئة قناة السويس من أجل تمويل مشروعات العاصمة الإدارية للمجرم السيسي؛ أي أن القناة نفسها في طريقها للضياع.. فهل حلّت لعنات الله على مشروع التفريعة وباتت آية من آيات الله وتطبيقا عمليا لوعيده (يمحق الله الربا)؛ بسبب المكابرة على العلم ودراسات الجدوى من جهة.. والمكابرة على تعاليم الله وشرائعه من جهة ثانية؟!