في يوم الإثنين (8 من أكتوبر 1951م) أعلن مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء حكومة الوفد، إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا، وكذلك اتفاقية 1899 بشأن السودان.. كان إلغاء الاتفاقية في ذلك الوقت بمثابة إعلان حرب ضد الإنجليز وحلفائهم، وبالفعل رفضت حكومات بريطانيا وفرنسا وأمريكا هذا الإلغاء، وتحركت قوى حلف الأطلنطي، وأعلنت حكومة بريطانيا حالة الطوارئ بين جميع قواتها في مدن القناة.

وفي المقابل بدأ الإعلام المصري يعبئ الجماهير من أجل تأييد قرار الحكومة والوقوف في وجه المحتلين، وبدأت المظاهرات تجوب شوارع القاهرة والمدن الكبرى منددة بالإنجليز.

في هذه الأثناء كانت جماعة الإخوان المسلمين مثخنة بالجراح بعد حلها واعتقال أفرادها، ثم اغتيال مرشدها، والتنكيل بأبنائها المجاهدين في فلسطين، ولم يكن قد مضى على إنصاف القضاء لها وعودتها وافتتاح مركزها العام والإفراج عن معتقليها سوى فترة قصيرة، لكن لم يكن لتلك الجماعة المجاهدة التي أخذت على عاتقها مواجهة هؤلاء الأوغاد في القاهرة من قبل أن تظل بلا دور، حتى وإن كانت تمر بتلك الظروف الصعبة ولم يسمَّ لها مرشد رسمي حتى اللحظة بعد اغتيال مرشدها الأول ومؤسسها قبل عامين من هذه الأحداث.

في يوم الخميس (11 من أكتوبر 1951م) أصدر الإخوان بيانًا يقدرون فيه خطوة الحكومة؛ بإلغائها معاهدة عام 1936م، مؤكدين أن الشعب كله من ورائها، يشد أزرها في الجهاد المقدس لتطهير البلاد من آخر أثر للاحتلال، وقد أعلنوا استعدادهم التام لمؤازرة الحكومة والتعاون معها في كل عمل إيجابي يؤدي إلى الاستقلال ووحدة الوادي، وبعد عدة أيام عقدوا مؤتمرًا خاصًّا بالإسماعيلية برئاسة الشيخ محمد فرغلي، مسئول الإخوان في منطقة القناة، على إثر إعلان النحاس باشا إلغاء المعاهدة، حضره مندوبون عن المناطق المختلفة في القاهرة والقناة ومديرية الشرقية، وهي مناطق مسرح العمليات ضد الإنجليز؛ بهدف دراسة الأوضاع بالتفصيل.

وقد استغرق المؤتمر ثلاثة أيام، وقدم كل مندوب تقريرًا وافيًا يحتوي على أرقام دقيقة عن الرجال المدربين في منطقته، أو الذين يمكن حشدهم وتدريبهم، وعن كميات الأسلحة والذخائر ومواد التموين الموجودة في حوزتهم، وفي ختام المؤتمر وقع الاختيار على الأخ المجاهد كامل الشريف، قائدًا عامًّا للمجاهدين في منطقة القناة.

كانت بداية المواجهة تقتضي تطبيق خطة لحصار ومقاطعة الجنود الإنجليز؛ فقامت الجماعة بتنظيم مظاهرات شعبية تطالب بمنع العمال المصريين من العمل في معسكرات المحتل، ومع بدء الصدامات المسلحة بين الوطنيين المصريين من ناحية والإنجليز من ناحية أخرى، استجاب آلاف العمال لنداء الجماعة وهجروا بعائلاتهم مدن القناة، وكانت تلك ضربةً قاصمةً للإنجليز، ثم قام الإخوان بوضع خطة أخرى لمنع تدفق المواد الغذائية إلى معسكرات المحتل، فاتصلوا بالتجار وقاموا بتوعيتهم، وحذروهم من الاستمرار في التعامل مع الإنجليز، وهددوا كل من يتعامل مع العدو بعد هذه التحذيرات باعتباره خائنًا لقضية الوطن، وبالفعل نجحت الخطة وانقطع تدفق الأغذية تمامًا عن المعسكرات الإنجليزية.

ثم أقام الإخوان العديد من المراكز؛ لإعادة تدريب الرجال الذين اشتركوا في حرب فلسطين من قبل، وأيضًا لتدريب الشباب الجدد الذين أقبلوا بكثافة للمشاركة في مواجهة المحتل.. وبدءوا ينفذون حرب العصابات ضد العدو، من جميع المناطق التي يوجد بها، في السويس وبورسعيد والتل الكبير والقنطرة والإسماعيلية، وفي توقيت واحد، لتشتيته وإرباك خططه، وفي يوم واحد قامت قوات الإخوان المسلمين بتنفيذ أكثر من عشرين عملية نسف أو استهداف كمين أو اختطاف أفراد من العدو.. وقد تواصلت العمليات الجهادية بأساليب متعددة وضد أهداف مختلفة، منها: مهاجمة دوريات العدو وقذف المئات من سياراته بالقنابل والزجاجات الحارقة، نسف مخازن ذخيرته، تدمير أنابيب المياه التي تغذي معسكراته، نسف قطاراته في مناطق السويس والإسماعيلية، إحراق مخازن الذخيرة والبترول، مهاجمة مطاراته العسكرية.. وغيرها من العمليات النوعية التي تولاها أفراد النظام الخاص بالجماعة.

أما الصفحة الأكثر إشراقًا في هذا الفصل النير من جهاد الإخوان في القناة، فكانت معركة (التل الكبير) التي وقعت في تلك المنطقة وما حولها، وكان أبطالها طلاب الإخوان المسلمين، الذين قاموا ببطولات رائعة في هذه المعركة التي وقعت يوم 13 من يناير 1952م؛ حيث قام هؤلاء الطلاب قبلها بيوم واحد (13 من يناير) بنسف أحد قطارات الإنجليز المارة بتلك المنطقة.. وفي اليوم التالي جاءت مجموعة من جنود الإنجليز لمعاينة الحادث، فحاصرهم الطلاب وقتلوا ثلاثة منهم، لكن سرعان ما توافدت السيارات والعربات المدرعة والدبابات الإنجليزية لتفرض حصارًا على هؤلاء الطلاب الذين صمموا على البقاء لمواجهة تلك القوات وعدم الانسحاب من أمامها.. وبدأت المعركة الحقيقية التي استمرت أكثر من 6 ساعات، نفدت خلالها ذخيرة الطلاب وتمكن الإنجليز من اجتياح قوتهم ومحاصرة البلدة والمزارع المجاورة، ولما رفض هؤلاء الأبطال تسليم أنفسهم انهمر عليهم الرصاص ليسقط ثمانية شهداء؛ اثنان منهم من الإخوان هما: أحمد المنيسي وعمر شاهين، وستة من شباب القرية، وتم أسر ستة آخرين من طلاب الجماعة.

ويقول الأسرى: إن الإنجليز كانوا ينظرون بخوف شديد إلى عمر شاهين وهو مضرج في دمائه، كانوا يتخيلونه حيًا قادرًا على مطاردتهم، حتى إن بعضهم همّ بوخزه مرارًا بسلاحه للتأكد من موته، وتركوا جثته وجثث إخوانه الشهداء في العراء طعامًا للكلاب.. لكن الكلاب كانت أكرم منهم فلم تمس جثث الشهداء بسوء، وكان الإنجليز حريصين على استبقاء جثث الشهداء، لكن الضغط الشعبي المتزايد ومخافة الانتقام من الإنجليز المقيمين بالقاهرة اضطرتهم لتسليم الجثث.

وعلقت الصحف البريطانية على تلك المعركة فقالت صحيفة "نيوز كرونيكل": إن هذه المعركة هي إحدى المعارك الكبيرة التي ثبت فيها المصريون ولم يركنوا إلى الفرار، وقالت "الديلي ميرور": ظل المصريون يحاربون لواء الكاميرون الهيلاندرز باستماتة عجيبة.

رحم الله شهداءنا وشهداء الحق، وألحقنا بهم في صحبة النبيين.. آمين.