عندما بدأت الإرهاصات تسري أواخر عام 1950م تذكر أن الأستاذ المستشار الهضيبي هو المرشد القادم لجماعة الإخوان المسلمين.. كتبت مجلة (روز اليوسف) تقول: "كان الأستاذ المستشار حسن إسماعيل الهضيبي المرشح ليكون المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين رئيسًا لمحكمة جنايات سوهاج, وفي إحدى القضايا الجنائية كان المحامي فيها شقيق وزير العدل قادمًا من القاهرة, وكان العُرف يسمح لرئيس المحكمة أن يستقبل في الاستراحة كبار المحامين الوافدين من القاهرة أو غيرها.. قال المحامي للأستاذ "الهضيبي": هل سيادتكم مستريحون في سوهاج؟

فرد عليه: تحقيق العدل هو الراحة التي لا ترتبط بزمان أو مكان.

قال: غدًا سأتناول الغداء مع أخي (وزير العدل) فإن رأيتم أن أرجوه لينقلكم إلى القاهرة..

فثار الأستاذ "الهضيبي", وقال له: تفضل يا أستاذ, أجئت تساومني؟

كان الساعي يهم بالدخول بالقهوة, فقال له: ارجع, وأُسقط في يد المحامي الكبير شقيق وزير العدل.

كان حسبي أن أذكر هذه القصة؛ ليعرف القارئ من هو الأستاذ "الهضيبي"، ولكني رأيت المزيد في ذكرى وفاته التي مضى عليها عقود, وأنا واثق من أن وسائل الإعلام لن تذكره, لا لأنها مشغولةٌ دائمًا بذكرى الراحلين والراحلات من أهل الفن, بل لأن هذه الوسائل الإعلامية غير الحرة لا تجرؤ أن تتجاوز الخطوط الحمراء, وإلا ذُهِب بمن يتجاوزها وراء الشمس.

وهذه شهادة أخرى من رجل كانت داره الصحفية في العهد الناصري حربًا شرسة على جماعة الإخوان المسلمين.. إنه الأستاذ الراحل "مصطفى أمين"

ففي الخامس من يونيه عام 1982م كتب في فكرته.. نلتقط منها بعض السطور:

"أعجبت بصموده.. انهالت على رأسه الضربات فلم يركع, حاصرته المصائب فلم ييأس.. تلقى الطعنات من الخلف والأمام, فلم يسقط على الأرض!"

"رأيته في محنته أقوى منه في مجده.. سقط من المقعد واقفًا, وغيره يجلس فوق المقعد راكعًا, رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا بالسلطان".

"رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة, ينام على (الإسفلت), وكأنه ينام على مرتبة من ريش النعام، ويأكل الخبز الممزوج بالتراب, ويحمد الله كأنه تناول الطعام على مائدة ملكية".

"عشت معه سنوات طويلة, كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة, وكانت بينه وبين المسجونين السياسيين مناقشات طويلة, كان عدد من المسجونين الذين عُذبوا وصُلبوا وضُربوا وأُهينوا وانتُهكت أعراضهم يصرون على الثأر والانتقام من معذبيهم, بعد أن يخرجوا إلى الحرية.. فكان يعارضهم ويقول لهم: هذه مهمة الله, وليست مهمتنا.. نحن دعاة ولسنا قضاة"!.

أقُول: هذه هي النفس العالية التي ترتفع فوق مستوى التدني قولاً وعملاً, وتؤمن بالحق كائنًا حيًا لا يعتريه الموت, وبالباطل كائنًا ميتًا مهما تظاهر بالحياة, وكأنه رحمه الله يتمثل كلمات للإمام علي رضي الله عنه-: "والله ما ذل ذو حق ولو قامت الدنيا عليه, ووالله ما عزَّ ذو باطل ولو طلع القمر بين عينيه".

كان يسره دحر الباطل وانتصار الحق بلا شماتة, كنا بالمركز العام حين أذيع نبأ الحكم بالإعدام على "إبراهيم عبد الهادي باشا"- خصم الجماعة- فارتفعت الأصوات: "الله أكبر ولله الحمد"، فاعترض في غضب وقال: مهلاً أيها الإخوة, حسبنا أن نَحمَد الله بلا شماتة, ومن يدري فقد تدور الدائرة عليكم".

وكان ابنه المستشار "مأمون" على نفس المستوى.. ففي 28 سبتمبر عام 1970م كنا نشاهد في معتقل مزرعة طرة برنامج "نور على نور" الذي كان يُعده الأخ "أحمد فراج" وتوقف البرنامج فجأةً, وبدأت تلاوة القرآن, وأخذنا نضرب أخماسًا في أسداس: ماذا حدث؟

وقطع صمتَنا ظُهورُ "أنور السادات" على الشاشة ودموع التماسيح في عينيه, يقول: رحل الساعة أعظم الرجال.. وما إن قال: الرئيس "جمال عبد الناصر".. حتى ارتفعت الأصوات: "الله أكبر ولله الحمد"...!! ووقف الأستاذ "مأمون" - في غضب - يقول: عيب أيها الإخوة، فلا شماتة في الموت..!! كان درسًا في الأدب لم يعِه كثيرٌ من الناس.

وكان الأستاذ "الهضيبي" رحمه الله ذا رؤية بصيرة في فنِّ السياسة, فحين وقع الانقلاب العسكري 23 يوليو 1952م كتبت مقالاً في مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأستاذ "الزيات" تحت عنوان "الوثبة المباركة"، وكان مقالي افتتاحية العدد.

علمت أن الأستاذ "الزيات" طلب من الأستاذ "الهضيبي" أن يرشح له بعض الإخوان للكتابة لـ(الرسالة) بعد أن أصبحت هدفًا للأقلام الماركسية, فأشار عليه بالأستاذ "سيد قطب" وبي, والحقُّ أنني بدأت الكتابة بـ(الرسالة) قبل ذلك, ولكنني سعِدت برأي الأستاذ في النهاية..

فقد استدعاني الأستاذ وقال لي: "إن أصحاب الدعوات يوجَّهون ولا يُمدحون".. فهمت, وبدأت أكتب مقالات بجريدة (اللواء) التي كان يصدرها الحزب الوطني أيام الأستاذ "فتحي رضوان" تحمل المقالات عنوان: "ماذا تريدون من رجال الثورة؟"...

في فبراير عام 1952م والملكية كانت ولم تزل ألفت كتابًا يحمل عنوان: "الإسلام والأمن الدولي", وفيه أنكرت أن يكون في الإسلام ما يسمي بـ(النظام الملكي المتوارث)، واستدعاني الأستاذ المرشد, وأنا في الطريق إليه لقيت الشهيد "سيد قطب".

وقال لي: "الحق وارفع كتابك من المكتبة؛ فقد سمعت لغطًا بالقلم السياسي أثناء التحقيق معي بشأن كتابي "السلام العالمي والإسلام" أي كان الغلط بشأن كتابي, وكان مع الأستاذ المرشد في مكتبته الشيخ "أحمد شريت" مفتش الوعظ, الذي حُكم عليه عام 1954 بالسجن خمسة عشر عامًا, وفي عام 1969م حول من السجن إلى معتقل مزرعة طرة معنا.. ثم لقيَ ربه بمستشفى القصر العيني قبل أن يُفرَج عنه.

قال لي الأستاذ المرشد: ما هذا يا رجل؟ لقد سهرت الليلة على كتابك (240) صفحة, لم أنَم حتى انتهيت منه, بعد أن اتصل بي ناظر الخاصة الملكية يعتب علينا بسبب كتابك.. قلت: هل رأى فضيلتكم فيه غير الحق? قال: لا.. قال الشيخ "أحمد شريت": يا فضيلة المرشد، هذا الكتاب مفخرةٌ لنا.. قال: يا شيخ "أحمد", لقد رفعنا التماسات نطلب الإفراج عن إخواننا بالسجون.. ألا ترى أن من شأن هذا الكتاب أن يؤثر في التماسنا؟

والمهم أنني اتفقت على مصادرة الكتاب، شريطةَ ألا يمس المؤلف بأدنى أذى, واتخذنا قرارًا شكليًا, وفي نفس الوقت أرسلنا منشورًا دوريًا إلى المكاتب الإدارية لتوضيح المسألة حتى لا يُساء إلى فكر المؤلف.

وفي عام 1954م ونحن بالسجن الحربي وفد إلينا معتقل جديد, يحمل معه صحيفة قاهرية, وفي صفحتها الأولي بالبنط الكبير: "المرشد العام يصادر كتابًا لأحد كبار الإخوان ينتقد النظام الملكي الوراثي" أستغفر الله! لم أكن من كبار الإخوان, بل كنتُ وما زِلت من عامَّتهم, وفي لقاء مع الأستاذ "عبد العزيز كامل" الدكتور فيما بعد ووزير الأوقاف ما رأيك؟

قال: "انج سعد فقد هلك سعيد, احتفظ بالجريدة لعل الخبر يفيدك حين يحقق معك" قلت: أتراني أرجم بيتي بالحجارة؟ قال: "أنت حر"، وحتى لا أضعف قمت بتمزيق الجريدة, وشاء الله ألا يُحقَّق معي حتى أُفرج عني!

ومن الغريب مصادرة الطبعة الثانية من الكتاب في عام 1960م في العهد الناصري؛ لأني تناولت (تيتو) و(نهرو) بشيء من النقد, وفي نفس الوقت اختارت إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم الكتاب لمكتبات المدارس الإعدادية والثانوية, وما في مستواهما, وكذلك فعلت إدارة المعاهد الدينية بالأزهر.

وفي عام 1953م - وكنت مدرسًا بمدرسة الوحدة العربية بالمنيرة بالقاهرة - اتصل بي الأستاذ "محمود المهدي" المحرر بالأهرام, وقال لي: إن الممثل "حسين صدقي" في مكتبي يريد أن يلقاك, كان الأستاذ "حسين صدقي" أنتج فيلمًا سينمائيًا بعنوان: (الشيخ حسن) كان هو البطل.. ويمثل دور طالب أزهري دُعي لإعطاء درس خصوصي لطالبة يونانية الممثلة ليلى فوزي في اللغة العربية، وأثناء الحصة كانت الطالبة تثير شبهات حول الإسلام.

وكان يتولَّى الدفاع عنه, وانتهت المحاورة إلى الإسلام في كتمان, ولاحظت الأسرة تحولاً في حياة الفتاة، وأدركت أن الشيخ حسن وراء هذا التحول, فقررت الاستغناء عنه, وزعموا أن المدرس هو الذي انقطع؛ لأنه مشغول بالمذاكرة والامتحان على الأبواب, فلزمت الفراش, وكان الشيخ (حسن) قد تردد أكثر من مرة, وكانوا يعتذرون له بأنها مريضة, وفي آخر مرة سمعت صوته يُنذر بعدم العودة, فغادرت سريرها؛ وبسبب سرعتها وقعت وتدحرجت على السلالم, وفقدَت حياتها.. واحتج إخوانُنا الأقباط على الفيلم بشكوى قُدمت إلى الرئيس "محمد نجيب"، الذي طلب مشاهدة الفيلم, وصرَّح بأن لا شيء في الفيلم, وبرغم ذلك صادره منعًا للمشاكل.

ونصح الأستاذ "مهدي" الممثل باللجوء إلى الإخوان, ورشحني لأكون حلقة الاتصال بينه وبين المرشد العام، فقلت: إن مهمتي أن أجمع بين الأستاذ وفضيلة المرشد, وزرته في مسكنه بـ(الروضة), وعرضت عليه المسألة, وقلت له: أرى أن يتدخل الإخوان حتى يقتنع رجال الثورة بأننا موجودون, وفي لقاء الأستاذ "حسين صدقي" مع المرشد, قال له: لا أستطيع أن أُصدر حكمًا إلا بعد مشاهدة الفيلم, واستجاب.

وتقرر مشاهدة الفيلم بـ(سينما كايرو) في عرض خاص بالطبع, وشاهدنا مع فضيلته الفيلم, ومعنا الشيخ شلتوت شيخ الأزهر فيما بعد وبعض أعضاء مكتب الإرشاد، واقتنع الأستاذ المرشد أن في مصادرة الفيلم تعسفًا, وأجرى اتصالات مع الرئيس "محمد نجيب" الذي وافق على رفع المصادرة، شريطة اختيار عنوان آخر, واختير له عنوان: "ليلة القدر".

وُفِّقت الجماعة في اختيار الأستاذ "الهضيبي" خلفًا للإمام الشهيد "حسن البنا" مؤسس الجماعة.. كان الإمام الشهيد قبل اغتياله قد أوصى "الباقوري" بتعهد الجماعة إذا حدث له ما هو متوقع, على أن تنتهي مهمته عندما يسترد الإخوان اعتبارهم بعد انتهاء المحنة؛ ليكون الأمر شورى, وفَّى الشيخ بالعهد, وكان الإمام الشهيد بعيدَ النظر, واثقًا من أن الشيخ لن تمسَّه المحنة, وهو صهر للشيخ "عبد اللطيف دراز" وكيل الأزهر, وعضو مجلس النواب عن الحزب السعدي الخصم العنيد للجماعة.

والأستاذ "الهضيبي" لم يكن غريبًا على الجماعة, بل كان من خاصة الإمام الشهيد ومن ذوي مشورته, تعرَّف عليه عام 1942م، وكان للبنا خاصةٌ من وجوه القوم يرى من الحكمة عدم ظهورهم على المسرح, على أمل أن يكون لأيٍّ منهم في المستقبل القريب أو البعيد دور مهم, ومن الأسباب التي دعت إلى اختيار الأستاذ "الهضيبي" كونه من رجال القضاء, وهذا مما قد يُزيل الجفوة بين الجماعة والقضاء التي سببها مصرع القاضي "الخازندار" بيد الإخوان.

ولا يجادل أحد في أن الأستاذ "الهضيبي" كان يتمتع بحزم في سلوكه, وبُعد نظر رشيد في أمور السياسة, فحين عرض ضباط الانقلاب على الجماعة ترشيح البعض منهم لبعض الوزارات, كان رفضه للفكرة مفاجأة, وسرعان ما اضمحلت المفاجأة حين عرض وجهة نظره في الرفض, قال للجماعة: إن للدعوة هدفًا أساسيًا هو رد الاعتبار للإسلام وشريعته, فإذا اشتركوا في الحكم دون تحقيق الهدف, ثبتت التهمة الملصقة بهم بأنهم جماعة استغلوا الإسلام وجعلوا منه ستارًا يُخفي هدفهم الأساسي, وهو الوصول إلى كراسي الحكم.

وكانت هناك محاولة بعد محنة 1954م؛ للتصالُح مع النظام, على أن تمارِس الجماعة نشاطها، بعيدًا عن السياسة مع تعويض سخيٍّ عما لحقها وأتباعها من ضرر فادح ماديًا وأدبيًا, ورفض الفكرة, وكانت وجهة نظره في الرفض أن لا تعود الجماعة إلا بحكم قضائي, وليس عن طريق منحة بلا ضمان، وتكررت المسألة في السنوات الثلاث الأولى من حكم "السادات" بلا جدوى, وكذلك بعد أن تولى الأستاذ "عمر التلمساني" الجماعة بعد رحيل الأستاذ "الهضيبي".

وكان "التلمساني" على نفس الطريق, ولقد قال لي الشيخ "سيد سابق" رحمه الله وكان على صلة بالمسألة: إن "السادات" عرض على الجماعة استرداد المركز العام, وخمسة ملايين من الجنيهات على سبيل التعويض، ومما لا يعلمه كثير من الناس أن بعض النفوس أصيبت بالرعب لتقارب "السادات" مع الإخوان, وفكَّر "موسى صبري" والسيدة "جيهان السادات" مع الإفادة من رأي قداسة "البابا" أن لا بد من الاستعانة بأجهزة الأمن لافتعال متفجرات في بعض كنائس الإسكندرية, وتسليط الاتهام على جماعة الإخوان، وضلت المؤامرة طريقها.

في أواخر الستينيات انعقد مؤتمر إخواني بالمغرب, واتخذوا قرارًا باختيار الأستاذ "الهضيبي" مرشدًا للجماعة مدى الحياة, واتصلت المخابرات بالأستاذ في سجنه لمساومته على الإفراج عنه مقابل كتابته سطورًا يعتذر فيها عن عدم قبول قرار الجماعة لظروفه الصحية، ورفض في إباء, وأكثر من مرة رفض الحوار مع المسئولين, وأقام رفضه على أساس أنه سجين يخضع لسلطة القضاء وحده!

ثم ماذا بعد هذا؟ فإننا أمام شخصية فذة, لا تكفي صفحات معدودة للوفاء بحقها في الدراسة, وحسبنا هنا ما قاله الأستاذ "مصطفى أمين" في آخر فكرته:

"كان متمسكًا بدينه بغير تعصب, مؤمنًا بالعدل كارهًا للظلم، يرفض العنف، ويقول: "ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان، ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت"! كان اسم الرجل هو: حسن الهضيبي"!!