بعد المسرحية الهزلية لسجون الخمس نجوم التي حاولت سلطة الانقلاب تلميع صورتها بعد تقرير الأمم المتحدة الذي اتهم العسكر بقتل الرئيس محمد مرسي، خرجت صور وتسريبات وشهادات للمعتقلين السابقين تكذب مسرحية سحر العيون والمبالغة الخداعة في إبراز مظاهر النعيم التي يحظى بها المعتقلون إلى درجة بيض النعام ومشويات على الفحم!.

وحولت سلطة الانقلاب العسكري السجون المصرية إلى مراكز لجني الأرباح من المعتقلين وأسرهم وتحولت إلى نمط سجن يحقق أرباحًا من حاجات المساجين اﻷساسية التي يشترط القانون على سلطات السجون توفيرها، فتُباع لهم بأسعار باهظة لصالح أرباح الكانتين.

وتسعى جنرالات داخلية الانقلاب لنهب المعتقلين وأسرهم، ضمن "بيزنس الشرطة"، على غرار نهب جنرالات الجيش أغلب مشروعات البلاد واحتكارها ضمن "بيزنس الجيش"، في فوضي لم تشهد لها مصر مثيلا في النهب المباشر وغير المباشر من المعتقلين.

ولا يكتفي لصوص الداخلية بما يجنوه من أرباح في الكانتين بل امتدت حكايات الظلم الذي يتعرض له المعتقلون وأهاليهم أيضا، لمعاناة خلال زيارات السجون وأثناء محاولتهم إدخال إعاشات لذويهم، الأمر الذي يصل في بعض الأحيان إلى منع الزيارات وإجبار الأسر على العودة بها فاسدة، أو أخذ رشاوى ترهقهم من أجل السماح بدخول بعض الأشياء البسيطة لتصبح رحلة السجون “تعذيب ونهب وأرباح” لجنرالات الداخلية.

رسوم الزيارة

استنزاف أهالي المعتقل وذويه مادية جريمة تدخل ضمن جرائم الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقل في سجون العسكر والتي تبدأ برسوم الزيارة المبالغ فيها وتنتهي باستغلاله في بيزنس "الكانيتن" بعد منع إدخال كافة احتياجاته.

ويروى أحد المعتقلين أنه "طبقا للائحة السجن فإنه من المفترض أن تكون رسوم تصاريح الزيارة الخاصة 3 جنيهات، لكن اللي بيحصل العكس، فرسوم التصريح الواحد بتكون ما بين 20 إلى 30 جنيها، على الرغم من أن هذا الأمر كان يعد عبئا على أسرتي، لكن إدارة السجن لا يهمها هذا، هي فقط تريد أن تجمع الأموال من أهالي المعتقلين بكل الطرق".

ولم يتوقف استغلال ذوي المعتقلين على دفع رسوم الزيارة، فهناك مصاريف ركوب طفطف إجباري بـ 2 جنيه، وبعد كده بمر بمراحل التفتيش الثلاثة، بداية من"التفتيش الذاتي"، وفيه تقف ثلاث نساء تأخذ كل واحدة منهم 10 جنيهات، تجنبا للإهانة منهم أثناء التفتيش، مرورا بـ "تفتيش السير" وهو شبيه بالموجود في محطة المترو، وهنا يقف أربعة أشخاص يأخذ كل منهم 20 جنيها من أجل السماح بدخول شنط الطعام والملابس، وأخيرا "مرحلة الختم وتسليم البطاقة" للدخول للزيارة مبكرا، وهنا تقف ثلاث نساء تأخذ كل واحدة 30 جنيها،  وفقا لأهالي المعتقلين ببرج العرب.

وهذا كله فضلا عن المعاملات داخل السجن التي لا تتم إلا بعملة "السجائر لتأجير مستلزمات النوم ، أما إذا أراد السجين الحصول على طعام أو مياه فعليه أن يحصل عليها من "الكانتين" بأسعار مضاعفة،وعملة الكانتين هي البونات بشرط وجود أموال لك في أمانات السجن، أما الرشوة فهي لدخول أي شيء آخر.

سبوبة الكانتين

في تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية تحت عنوان "البيع في الكانتين.. الإفقار العمدي في السجون" الذي صدر عام 2018، ألقى التقرير الضوء على الاستغلال الاقتصادي للمساجين عن طريق الكانتين، وطبّق ذلك على سجن العقرب خلال الفترة من 2016 إلى 2017، فأشار التقرير بعدم ذكر الكانتين في لائحة السجون، ولا حتى الأسس التي وُضعت على أساسها الأسعار، وبالتالي تستطيع إدارة السجن رفع أسعار أبسط السلع لتحقيق أكبر ربح ممكن.

غرف الحبس الاحتياطي المؤثثة.. "فنكوش"

تنص المادة 14 الخاصة بالحبس الاحتياطي بعد تعديلها عام 2015 على أن من حق "المحبوسين احتياطيا الإقامة في أماكن منفصلة عن أماكن غيرهم من المسجونين، ويجوز التصريح للمحبوس احتياطيا بالإقامة في غرفة مؤثثة مقابل مبلغ يحدده مساعد الوزير لقطاع مصلحة السجون لا يقل عن 15 جنيها يوميا، وفقا للإجراءات والقواعد التي تحددها اللائحة الداخلية" (9).

 لكن القانون قيّد هذه المادة بجملة: "وذلك في حدود ما تسمح به الأماكن والمهمات بالسجن"، وهذا معناه "في حالة عدم توافر الأماكن أو المهمات في السجن فليس من حق المحبوس احتياطيا الجلوس في هذه الغرف أو الاعتراض على عدم وجودها" (10).

وتعجّب المعتقل السابق علاء ناصر من وجود تلك القوانين, قائلا: "أنا عمري ما قعدت في غرفة الحبس الاحتياطي، الغرفة دي موجودة بس في لائحة السجن، لكن الغرفة المسموح بها هي العمبوكة، أوضة 4×6 أمتار بها 50 مسجونا، قعدت فيها لمدة 12 يوما، موجودة في سجن 440 بوادي النطرون، ولا يوجد بها منفذ للتهوية.. أما الغرفة الأخرى فهي غرفة التأديب وهي خاصة بمَن يرتكبون مخالفات داخل السجن، ويكون العقاب 15 يوما، والطعام عبارة عن نصف رغيف، وقطعة جبنة صغيرة، وزجاجة مياه، وجردل لقضاء الحاجة".

ويكمل علاء : "بالنسبة للسجون الأخرى اللي مريت عليها مثل العقرب 2، وسجن المزرعة، فقد حصلت فيها على بطانية ومرتبة، أما سجون "ليمان طرة"، "الملحق"، "بنها"، "أبو زعبل"، "الاستئناف"،"440"، لم أستلم هناك شيئا، وكانت الغرفة فارغة"، ويكمل: "في السجن مفيش فيه حاجة اسمها سرير، "البلاط" بيكون السرير"، وهذا ما أكّده "عماد محمد" لـ "ميدان"، لكنه يُضيف أنه حصل على بطانية قبل الترحيل من القسم، قائلا: "معاملة الجنائيين أفضل بكتير من معاملة السياسيين، فمسموح لهم بدخول مروحة وتلفاز وصحف، لكن بالنسبة لنا ممنوع كنوع من العقاب، وبالنسبة للمعاملة الإنسانية كويسة نوعا ما عشان شايفين إن السياسيين ولاد ناس ومتعلمين، على عكس الجنائيين".

غرف النوم في السجون المصرية!!

أما والدة المعتقلة "أمينة علي" فتعجّبت بعد سماعها بغرفة الحبس الاحتياطي المؤثثة، قائلة: "لا أعلم عن هذه الغرفة شيئا، رغم أن بنتي في الحبس الاحتياطي من سنة، لكنها تجلس في عنبر به 40 مسجونة، وتنام هي وفتاة أخرى على سرير طوله 40 سم"، وتضيف أن ابنتها ذهبت لمأمور السجن، لرغبتها في النوم على سرير بمفردها، فجاء الرد: "أنا لو بإيدي أحجز الهواء اللي إنتو بتتنفسوه عشان تموتوا هعمل كده"، ورفض السماح لها بالنوم على سرير بمفردها.

وتكمل: "حاولت بعدها أوفر لها مرتبة بأي طريقة، ونجحت في تأجير مرتبة، ومخدة، وبطانية، وثلاجة لوضع الطعام فيها، مقابل خرطوشة سجائر أسبوعيا ثمنها 200 جنيه، كمان دخلت مروحة لبنتي، بعد ما كانت إدارة السجن ترفض إدخالها كل مرة، فكنت أتركها في أمانات السجن مقابل رسوم 30 جنيها، وفي النهاية نجحت في إدخالها مقابل رشوة بـ 200 جنيه".

فيما أكّدت والدة المعتقلة "علياء أحمد" أيضا عدم معرفتها بغرفة الحبس الاحتياطي المؤثثة، وذكرت أن الغرفة التي كانت تجلس فيها ابنتها هي غرفة "الإيراد"، ومخصصة للمساجين الجدد، ظلت فيها لمدة 18 يوما، وفي أوقات كثيرة كانت تنام ابنتها وهي واقفة، نظرا لازدحام الغرفة الشديد، وعدم وجود مكان للنوم فيها، وتكمل: "بعد ذلك انتقلت ابنتي لعنبر الجنائيين على الرغم من أنها معتقلة سياسية"، وعندما كانت تسأل ابنتها عن حالها داخل العنبر، كانت تقول لها: "يا ماما ما تسألنيش، هو أنتِ مش عارفة يعني إيه أقعد في عنبر جنائيين، مع بتوع الآداب والمخدرات".

رسالة المعتقلة إسراء خالد

تشكو والدة علياء من سوء حالة ابنتها وحالتها النفسية السيئة داخل السجن بسبب جلوسها في هذا العنبر، والموجود به 12 سجينة، ورفضت إدارة السجن السماح لابنتها بتغيير هذا العنبر بالإضافة إلى منعها من تأجير بطانية ومرتبة، ووضّحت أن تأجير هذه الأشياء "مسموح به للجنائيين، والمعتقلين السياسيين بيأجروا منهم مقابل خرطوشة سجائر، تشتريها لابنتها من كانتين السجن بـ 200 جنيه".

"الخوف" يمنع الأهالي من الشكوى الرسمية

تنص المادة 56 من الدستور المصري على أن "السجن دار إصلاح وتأهيل,وتخضع السجون وأماكن الاحتجاز فيه للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يُعرّض صحته للخطر، وينظم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم" (11).

 لكن تبقى هذه الكلمات مجرد حبر على ورق لا يُنفّذ منه شيء، وهذا ما يوضحه أيضا "خلف بيومي"، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان: "هناك الكثير من الشكاوى التي تصل إلى المركز بسبب المبالغ الكثيرة التي يدفعها الأهالي أثناء الزيارة وللكانتين، لكن الكثير منهم يرفض تقديم شكوى رسمية، حتى لا يترتب عليها المنع من الزيارة، ولذلك فالطريق القانوني لوقف هذه التجاوزات لن يحقق شيئا".

وهذا ما أكده أيضا المحامي الحقوقي "رؤوف عيسى"، كما أكد زيادة رسوم الزيارات الخاصة، وأشار إلى وجود نظام الغرف الاحتياطية لكن التعامل معها يتم "بصورة غير رسمية لبعض الأشخاص"، وعلى الرغم من المعاناة والقهر اللذان يتعرض لهما المعتقلون وذووهم وعائلاتهم، صرّح اللواء "زكريا الغمري"، مساعد وزير الداخلية المصري لقطاع السجون، في عام 2018 أن السجين يحصل على راتب شهريا ما بين 3 آلاف إلى 6 آلاف جنيه، وذلك مقابل عملهم في مصانع السجون (12).

فالتقارير التي تُصدرها مراكز حقوق الإنسان وشهادات المحامين المختصين بقضايا المعتقلين السياسيين في مصر عن ما يتعرّضون له من قهر وتعذيب وتشوّهات نفسية وجسدية تتناقض مع الصورة التي تروّجها لجنة حقوق الإنسان في البرلمان عن رفاهية السجون، ولعل الحادثة الأبرز هذه الأيام ما حدث للناشطة إسراء عبد الفتاح التي تعرضت للضرب في أنحاء كثيرة من جسدها (16)، وما حدث أيضا للناشط "علاء عبد الفتاح" الذي تعرض للضرب والتجريد من ملابسه، والأمر نفسه حدث للمحامي ومؤسس مركز عدالة للحقوق والحريات "محمد الباقر" الذي جُرّد من ملابسه، ومُنع من شراء مياه نظيفة وطعام من كانتين السجن. 

ولم يقتصر الأمر في السجون على التعذيب فقط (17)، بل وصل إلى القتل العمد نتيجة للإهمال الطبي في السجون، فبين عامي 2016 و2018 توفي نتيجة للإهمال الطبي 819 سجينا، وفي عام 2019 وصل عدد حالات الوفاة إلى 22 سجينا (18)، وعلى الرغم من ذلك لا يزال النظام المصري مستمرا في إنكار وجود انتهاكات في السجون المصرية (19).

ويبدو أن هذا الوضع سيستمر طويلا، لأن السجون في مصر لم تعد فقط جحيم المعارضين للنظام العسكري، بل تحوّلت إلى نوع جديد من الاستثمار، التي تدر ربحا مرضيا لأمناء الشرطة والضباط والعاملين في السجن، ويبدو أن جمهورية مصر العربية قد تحوّلت تحت حكم المؤسسة العسكرية إلى جمهورية "ادفع علشان تعيش".