عشرة دروس للدعاة

هي عشرة مواقف عملية.. تخبرنا عن سمات الدعاة المجاهدين، نأخذ منها عشرة دروس عظيمة، يحتاجها كل داعية عامل للإسلام، كتبها شيخنا الشهيد (محمد فرغلي) بوقته وجهده وعرقه وماله.. وفي النهاية بدمائه، عسى أن ينتفع بها الدعاة من بعده "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق: 36).

1- السبق والمسارعة للعمل للإسلام

كان سبَّاقًا للعمل للإسلام وهو لا يزال طالبًا بالأزهر، فقد كان عضوًا بجمعية (الحضارة الإسلامية) بالقاهرة، والتي كان من أعضائها عددٌ كبير من الشباب الذين صاروا فيما بعد إخوة فضلاء.

ثم لما رأت جمعية الحضارة نشاطَ جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وانتشار فروعها في هذا المحيط حول هذا البلد المبارك.. اقتنع رجال الحضارة بأن التوحيد خير من الفرقة، وبأن انضمام الجهود أولى وأفضل، فاتصلوا بالإسماعيلية، وكانت محادثات انتهت بانضمام جمعية الحضارة إلى الإخوان المسلمين، وصيرورتها شعبة من شعبهم، وصار شيخنا الشهيد من أبرز دعاتها في تلك الفترة المبكرة.

2- قلة الكلام وكثرة العمل

وليس هناك أبلغ من كلماته التي قالها حين طالبه إخوانه ومحبوه أن يكثر من الكتابة في مجلة الإخوان المسلمين، فكتب مقالاً قصيرًا قال فيه: "نحب دائمًا أن نعمل وأن ندعو إلى العمل؛ لأن العمل هو الطريق الذي يوصلنا إلى الغاية ويحقق لنا ما نرجو من الأمل، والعمل الطيب خير كله قليله وكثيره.. يشد بعضه بعضًا، أما الكلام فالخير منه قليل والكثير منه يُنسي بعضه بعضًا.

وهنا أدعو إخواني رجالَ الوعظ و الخطابة إلى الإيجاز في خطبتهم ومواعظهم؛ ليخرج المستمعون وقد فهموا شيئًا محدودًا يمكنهم أن يحفظوه و أن يعملوا به، والزمن كفيل بأن يبلغ كل ما يريد من القول، أما أن يغتر الخطيب بما يرى من الإعجاب أو أن يشغل نفسه بأن يقول كل ما في نفسه ثم يخرج المستمع ناسيًا كل شيء عند أول خطوة فذلك ليس من الحكمة في التبليغ.

وللكلام شهوة يجب أن نحاربها؛ لأنها تضيع الفائدة وتحبط العمل "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق: 36).

3- عزة المؤمن وشجاعة الداعية

يروي الأستاذ البنَّا في مذكراته هذا الموقف الرائع للشيخ الشهيد فيقول: "اتصل بعضُ عمال الجبَّاسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم، ودُعيت إلى زيارة الجباسات، وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي، وبعد قليل طلب العمالُ إلى الشركة أن تبني لهم مسجدًا- إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل- وفعلاً استجابت الشركة لمطلبهم وبُني المسجد، وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخٍ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس، فانتدبت لهذه المهمة فضيلةَ الأخ الشيخ محمد فرغلي.

وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح وتسلم المسجد، ووصل روحه القوى المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين، فلم تمض عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعًا عجيبًا.

لقد أدركوا قيمةَ أنفسهم وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوفَ والذل والضعف والوهن، فجدّوا في عملهم، ثم عفُّوا عما ليس لهم، فلم تأسْرهم المطامع التافهة ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق، لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية أو لفظة جافية أو مظهرًا من مظاهر التحقير والاستصغار كما كان ذلك شأنهم من قبل، وتجمعوا على الأخوة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال.

ظنَّ الرؤساء هذا في الشركة وفكروا في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيسُ المباشر، فلما توجَّه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير.

فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا "مسيو فرانسوا" أنني موظف بشركة جباسات البلاح، ولو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قِبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية وأتقاضى مرتبي منهم محوَّلاً عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبًا ولا حسابًا، ولا أترك عملي في المسجد ولا بالقوة، إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية التي انتدبتني هنا وهو أمامكم بالإسماعيلية فاتفقوا معه كما تريدون، واستأذن وانصرف.

وسُقط في يد إدارة الشركة، وسُقط في يد إدارة الشركة وصبرت أيامًا، لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه كان قد اتصل بي في الإسماعيلية فأوصيناه بالتمسك بموقفه وألا يدع مكانه بحال، وحجته معقولة ولا شيء لهم، عندها لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها "المسيو ماينو" بمحافظ القنال الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور ومعه قوته، وجلس في مكتب المدير، وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد وأجاب الرسول: لا حاجة عند المأمور ولا عند المدير وعملي بالمسجد فإذا كان لأحدهما حاجة ليحضر لي، وعلى هذا فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب إليه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل ويعود إلى الإسماعيلية، فأجاب بمثل ما تقدم، ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظةٍ واحدة، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشى المأمورُ العاقبةَ فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بي للتفاهم على الحل.

قابلت بعد ذلك مديرَ الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ، فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصًا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه كلمةً لا أزال أذكرها: "أنني صديق للكثير من زعماء المسلمين، ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنة، ولكني لم أجد منهم أحدًا كهذا الشيخ، الذي ينفذ علينا هنا أحكامًا عسكرية كأنه جنرال تمامًا".

4- الجهاد بالمال دون إبطاء

في عام 1938م اقتُرح مشروع سهم الدعوة، وخلاصته أن يتطوع من يشاء من الإخوان ببذل نسبةٍ من ماله لا تقل عن العُشر؛ للإنفاق منها على تكاليف ومتطلبات العمل الدعوي.

ونُدب الإخوان إلى المشاركة في هذا الجهاد المالي فكانوا سراعًا، وكان من أسرعهم إخوان الإسماعيلية، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد فرغلي، وكانت مشاركتهم في صورة جماعيةٍ رائعة، دعت المشرف على المشروع أن يقدم لهم بهذه الكلمة الطيبة تحت عنوان "صفحة الرعيل الأول": "ننشر في هذه الصفحة تباعًا أسماء حضرات الإخوان الذين استجابوا لنداء الجهاد بالمال وآثر الدعوة بسهمٍ لا يقل عن العُشر من أموالهم المباركة إن شاء الله.

ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نشيد بإيمان إخواننا الأعزاء بالإسماعيلية، الذين أبت عليهم غيرتهم إلا أن يساهموا جماعةً لا أفرادًا في هذا المشروع الجليل، فوافوا المكتب بمحْضَرٍ موقَّعٍ عليه، منهم بعد أن تعهدوا بتقديم أعشار أموالهم منذ أول أكتوبر إن شاء الله، فبارك الله لهم في أموالهم، وأعزَّ الدعوة بإيمانهم".

5- الصبر والاحتساب والثبات عند الشدائد

وتنشر مجلة النذير (عدد 10- 5 جمادى الثاني سنة 1357هـ الموافق 1/ 8/ 1938م) هذا الموقفَ الإيماني المؤثر كتبه الأخ "عبد الله عبد المطلب المازني"- وكان في رفقة فضيلة المرشد في  رحلة إلى القنال- تحت عنوان "إيمان رجل"، فيقول: "في أثناء حفلة بورسعيد وردت للأخ الكريم الشيخ محمد فرغلي وفا واعظ بورسعيد, ومن إخوان الدعوة السابقين برقيةً قرأها في ثبات الواثق واطمئنان المؤمن, ثم وضعها في جيبه في تؤدةٍ ورفق، وبعد دقائق دُعي للخطابة، فتكلم في الدعوة ونزاهتها وكان مُوفَّقًا غايةَ التوفيق, وفي اليوم التالي بعد سفرنا علِمنا من فضيلة المرشد أن البرقيةَ كانت نعيًا لوفاة نجله الوحيد, وأن الشيخ فرغلي كان يريد متابعةَ الرحلة معنا لولا إباء فضيلته عليه ذلك, فلله ما أروع هذا الإيمان, وما أكبر هذا القلب وأسماه!".

6- الجدية وتقدير المسئولية

ويذكر عنه إخوانه أنه "لما نزل الأستاذُ البنا الإسماعيليةَ عام 1948م وقضى مع الشهيد الشيخ فرغلي جزءًا من الليل، وكان الشهيد على وشك السفر إلى ميدان القتال، فقال له الإمام البنا: "ربما أمكنك السفر مع الفجر وتقضي ليلك معنا، وفي صلاة الفجر قالوا له لقد سافر الشيخ مبكرًا، وصار الإمام يضرب كفًا بكفٍ، ويقول فرحًا: "هكذا يكون الرجال المسلمون في مواضع المسئولية".

7- التواضع والأدب مع المربين

يروي إخوانه أنه "دُعي يوما للخطابة في وجود الأستاذ البنا، وأصرَّ عليه الإمام أن يتكلم، فوقف متلجلجًا لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة، وهو من هو في الوعظ والخطابة، ولكنه يستحيي أن يتحدث في وجود الإمام البنا".

8- الولاء الكامل للدعوة واحترام القيادة

يُكمل المجاهد كامل الشريف شهادته بقوله "أذكر أن الشيخ فرغلي لم يكن منسجمًا تمام الانسجام مع المرشد العام الجديد في الأيام الأولى لتنصيبه، وكنت أعرف عنه ذلك، وبعد نجاح الانقلاب العسكري وتأليف وزارة محمد نجيب الأولى عُقد اجتماعٌ في مكتب البكباشي جمال عبد الناصر، وكان الشيخ فرغلي وأنا نمثل الإخوان في محاولةٍ من تلك المحاولات التي بُذلت لتحديد الخلافات بين الإخوان وحكومة الانقلاب ووضع حلولٍ لها.

ويبدو أنهم أرادوا أن يوقِعوا بين الشيخ والمرشد العام، فأخذوا يمدحون الشيخَ ويذكرون له مواقفه العظيمة في فلسطين، ثم أخذوا ينالون من شخص المرشد العام ويتحاملون عليه، غير أن الشيخ فرغلي قطع عليهم الحديث وقال غاضبًا: "يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا وقائد جماعتنا، وإنني أعتبر حديثكم هذا إهانةً للجماعة كلها، ولشخصي بصفة خاصة، إذا كان هذا هو أسلوبكم في تسوية الخلاف فإنكم لن تصلوا لشيء إلا زيادة هذا الخلاف".. وكان هذا القول كافيًا لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود.. قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى".

9- اليقين والثقة في الله

وهذا ما ظهر في اللحظات الأخيرة من الحياة، إذ تقدم الشهيد محمد فرغلي إلى المشنقة وهو على حدِّ ما تناقلته الصحافة العالمية "في حالة سلامٍ واضحة مع نفسه"، وكان تعليقه الوحيد: "أنا مستعد للموت.. فمرحبًا بلقاء الله".

10- الورع والزهد الصادق

يقول فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب: "إنه بعد إعدام الشهيد بثلاثة أيام فوجئ بصحيفة الأهرام تنشر في الصفحة الأولى صورةَ عمارةٍ ضخمة جدًا، وأمامها عربية مرسيدس مكتوبٌ تحتها "هذه عمارة فرغلي وقد بناها من تبرعات فلسطين وهذه سيارته"!!.

"ولأننا لم نكن نظن أن الإجرام يصل إلى هذه الصورة.. حتى والناس لم تجف دماؤهم بعد، أخذتُ الأهرام وذهبت إلى البيت وكنت أسكن في الحلمية وأنا في غاية الألم، يسكن معي أحد الأخوة من أسيوط، فقال لي: هل تدري أن شقيق الشيخ فرغلي إبراهيم سيزورنا بعد قليل؛ لأنهم حضروا من البلد ليأخذوا وصية الشيخ ويستلموا ملابسه، فانتظرت حتى جاءوا فأخذت إبراهيم وقلت له "ممكن أشوف الوصية؟"، قال: نعم فأعطاها لي فوجدت وصية: "يا إبراهيم: اذكر أن سجن المؤمن خلوة، وأن تغريبه سياحة، وأن قتله شهادة، يا إبراهيم أنا لم أترك لكم شيئًا، فإذا أعوزتك الحاجة فاذهب إلى الشيخ الباقوري فإنه صديق يستطيع أن يقضي لك ما تريد".

ويواصل الشيخ الخطيب قائلاً: "ما تركه الشهيد فعلاً لأبنائه كان بيتًا قديمًا في الإسماعيلية، بيتًا قديمًا مؤجرًا بمبلغ 120 شهريًا.. ولم يكن الشهيد محمد فرغلي يمتلك المنزل كله.. بل نصفه فقط، وكان إيراده منه 60 قرشًا شهريًا.. وكانت هذه التركة الضخمة هي كل ما تركه الشهيد لأهله"!!.

وبعد أيها الدعاة.. هل من معتبر.. هل من مقتدٍ.. عسى أن يلحق بهؤلاء الشهداء الأبرار.