لا أحد الآن يستطيع أن ينكر- بعد سنوات الخبرة التي عاشتها وعانتها القضية الفلسطينية، وخاصةً الأيام الأخيرة من تلك السنوات- أن الإصرار على تفريغ القضية من بُعدها الديني، وقطع الرابطة بينها وبين رافد الإسلام، هو حُكْمٌ عليها بالإعدام، ورغبةٌ في استمراريتها في الدوران في حلقات مفرغة، ومتاهات لا تنتهي من لعبة المفاوضات، وخداع السلام الزائف، وهذا لا يعني رفضنا لمبدأ السلام، فالله- عز وجل- يقول: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال: 61).

ولكن أي سلم وأي سلام؟! إنه السلام القائم على الحق والعدل والكرامة والتكافؤ، وردِّ الحقوق لأصحابها، وليس سلام الذلِّ القائم على فرض الأمر الواقع بالقوة، وسلب الحقوق، وإملاء الشروط، وهذه الحقيقة التي بدأ المسلمون والعرب يدركونها الآن باستحياء وتحفُّظ تُلقي على عاتق الدعاة واجبًا أكبر، ومسئولية أثقل، إلا أنها في الوقت ذاته تمهد أمامهم السُّبل وتفتح المجالات ليقوموا بهذا الواجب ويؤدوا تلك المسئولية.

وما نقوله عن الداعية الفرد ينطبق على التجمعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية باختلاف أسمائها ومناهجها، بعدما أثبتت الأيام والأحداث والتجارب صحة ما كانت تذهب إليه تلك التجمعات من تحفظات واعتراضات على مسيرة الحل الذي سُمِّي بالسلمي؛ إذ يرتفع الآن رصيد مصداقية تلك التجمعات في الشارع الإسلامي والعربي نتيجة ما ظهر من عدم جدوى الطرح الرسمي، وتبخُّر الوعود والآمال التي كانت منتظَرةً جرَّاء هذا الطرح.

ولكن يبدو أن بعض هذه التجمُّعات- إن لم تكن كلها- قد فوجئت بما لم تكن تحسب حسابه.. من تسارع للأحداث، واستجابة للرأي العام وتفاعله معها بشكل كبير نسبيًّا؛ وهو ما يفرض عليها أن تتوقف لحظات لتستوعب ما حدث، ولتدرك أن هناك نقصًا ما في برامجها السياسية والتربوية، ومن ثم تعيد النظر في تلك البرامج، خاصةً بعدما أحرج بعض الشباب المنتمين لبعض تلك التجمعات قادتَهم، طالبين منهم موقفًا فاعلاً وتوجيهًا راشدًا.

ولسنا نبالغ إذا قلنا: إن الدعاة- أفرادًا أو جماعات- لهم الدور الأكبر والأساسي في تعبئة عقول الأمة وأرواحها وأبدانها، ووضع الأدوار المختلفة لكل شرائحها، ومتابعة أداء هذه الأدوار؛ حيث تنصبُّ مسئولية الدعاة في الأصل على جانب إيقاظ الوعي وتصحيح المفاهيم، والقيادة الروحية لشرائح المجتمع المختلفة، لوضع عقولهم وأيديهم على جوانب الفعل الإيجابي لدعم الانتفاضة، من خلال الخطاب الدعوي المتاح عبر مختلف النوافذ؛ سواء كانت جماعية أو شخصية.

إن الداعية يستمع إلى خطابه شرائحُ عدة من المجتمع إن لم تكن كافة الشرائح، وهو قادر على التأثير إن أحسن استخدام الوسائل المتاحة، وعمل على ابتكار غيرها، وتتحدد الأدوار النابعة من تلك المسئولية في ثلاثة محاور: معرفي، ومعنوي، وعملي.

المحور المعرفي

1- التعريف بالجذور التاريخية للقضية قديمًا وحديثًا، والتعريف بالأهمية الدينية والثقافية للأراضي الفلسطينية، وفضح الفظائع والمذابح التي ارتكبها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني.

2- بيان حقيقة الصراع مع اليهود المعتدين بشِقَّيْه العقَدي والسياسي، وأنَّ كُرهنا لليهود وحَربنا لهم لا تنطلق من منطلق الكراهية والحِقد، والرغبة في القتل؛ وإنما من منطلق ردِّ العدوان واسترداد الحقوق.

3- التأكيد على أن القضية تخصُّ المسلمين والعرب جميعهم، والردُّ على الشبهات والأقاويل والمزاعم المنتشرة بين عوامِّ الجماهير العربية والمسلمة، والتي تفتُّ في عضدهم وتخذلهم عن نصرة إخوانهم، مثل قولهم: "إن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم لليهود برضاهم، وهم بذلك لا يستحقون النصرة، وليس لهم حق في المطالبة بأرضهم"، وقولهم: "إن القضية تخصُّ الفلسطينيين وحدَهم، وإن علينا الالتفات إلى مصالحنا وقضايانا القُطْرية"... إلخ.

4- التعريف بجهاد الشعب الفلسطيني بمختلف فصائله، وكفاحه على طريق المقاومة، وإبراز نماذج المجاهدين والمقاومين منهم، ودور التيار الإسلامي في هذا الكفاح.

5- كشف خداع المصطلحات والأسماء، وتكريس المعاني الصحيحة لها في أذهان الناس وعلى ألسنتهم، فالجهاد ومقاومة المحتل ليست إرهابًا، والعمليات الاستشهادية ليست انتحارًا... إلخ.

6- التأكيد على أن ما يحدث له جذور لا ترجع إلى التفوُّق العسكري للعدو الصهيوني بقدر ما ترجع إلى تخلِّي المسلمين والعرب عن الأخلاق والقِيَم والشرائع فيما بينهم.. "ما دخل اليهود من حدودنا؛ ولكن تسربوا كالنمل من عيوبنا"، وكذلك إبراز دور العلم والتقدم العلمي في المواجهة.

7- التأكيد على أهمية بناء النفس إيمانيًّا وجسديًّا، وتربيتها على الالتزام بالطاعات والعبادات والآداب، فدون الحدود والسدود الأرضية المانعة من الجهاد حدود وسدود وقيود أخرى بداخل كلٍّ منَّا تحتاج إلى اقتحام، ولن تُقتحم الحدود الأرضية إلا إذا استطعنا اقتحام الحدود التي بداخلنا، وهذا لن يكون إلا بالتربية والالتزام.

8- محاربة المفاهيم السلبية والمنطق التواكلي، الذي يُقنع الفرد بالاسترجاع والحوقلة والدعاء، دون تأدية ما عليه من واجبات يستطيع القيام بها.

9- بيان أن الجهاد له سبلٌ شتى، لا تقلُّ في أجرها ولا في تأثيرها عن الجهاد المسلَّح؛ كالجهاد بالمال، وبالكلمة، والمقاطعة الاقتصادية، والتضامن المعنوي، وأنَّ لكل فردٍ من الأمة دورَه في هذا المضمار، وليس لأحد حُجَّة في التخلف والتخاذل والتراخي، ويأتي في هذا النطاق تحديدُ الأدوار للقطاعات المختلفة التي توجَّه إليها الرسالة الدعوية.

المحور المعنوي

1- محاصرة مشاعر الإحباط واليأس التي قد تتسرَّب إلى قلوب الجماهير، وبثُّ الأمل في النفوس، والتأكيد على الثقة بالله- سبحانه وتعالى- وأن هناك حسابات ومعايير أخرى للنصر، إضافة إلى الحسابات والمعايير المادية الظاهرية.

2- إعادة الثقة بالنفس فرديًّا وجماعيًّا، وبقدرتها على المواجهة الإيجابية.

3- إيقاظ المشاعر والعواطف تجاه ما يحدث من انتهاكات لمقدسات الأمة، واعتداءات على أرواح وأعراض أبنائها، مع أهمية ضبط هذه المشاعر وتوجيه ردود الأفعال المتولِّدة عنها توجيهًا إيجابيًّا صحيحًا نحو خطوات فاعلة ومؤثرة، بعيدًا عن التخريب والتدمير والمواجهات المعطِّلة وغير المثمرة.

4- إحياء روح الجهاد في الأمة، ومحاربة الوهن المتمثِّل في حب الدنيا وكراهية الموت، والتأكيد على أهمية التربية إعدادًا للجهاد؛ حيث إن الجهاد المُثْمر لا بد أن تسبِقَه تربيةٌ للفرد وللمجتمع.

5- أهمية "النَّفَس الطويل" وعدم التعجُّل، فما حدث ويحدث كان نتيجةً لتراكمات على مدار سنوات طويلة؛ لذا فطريق الإصلاح يمتدُّ طوله بقدر هذه السنوات، فما فسد في سنوات لا يصلح في أيام.

المحور العملي

1- العمل على تدعيم سلاح المقاطعة الاقتصادية لبضائع العدو الصهيوني ومَنْ يسانده، وإثبات وجوب ومشروعية هذه المقاطعة وفاعليتها من خلال وقائع وأمثلة تاريخية ملموسة، وهذا يحتاج إلى تحديد أهداف المقاطعة، وكونها تحررًا من أسر العادات الاستهلاكية، إلى جانب كونها وسيلةً للضغط على العدو ومسانديه، ويحتاج هذا إلى إعداد نشرات بأسماء البضائع والشركات والهيئات المطلوب مقاطعتها، والقيام بتوزيعها على قطاعات المجتمع المختلفة.

2- استلهام قدوات ومُثُل عليا من المجتمع الفلسطيني، وترويجها في مجتمعاتنا، مثل نموذج المرأة الفلسطينية التي تدفع أبناءها للاستشهاد، وتودِّعُهم بقلبٍ ثابتٍ، وتقيم الأفراح عندما يأتيها خبر استشهاد أحدهم، وكنموذج الطفل الأعزَل الذي يتصدَّى للدبابة بثبات، وإحلال تلك النماذج محلَّ النماذج العكسية في مجتمعاتنا؛ كنموذج الأم التي تمنع ابنها حتى من مجرد المشاركة في تظاهرة أو مؤتمر لنصرة الانتفاضة خوفًا عليه، وكنموذج الرجال الذين يبرِّرون جبنهم وعجزهم بالتفوُّق العسكري للعدو.

3- قيادة حملات للتبرع بالمال والغذاء والدم، ولمقاطعة بضائع العدو ومن يسانده عبر المنافذ الرسمية والأهلية المتاحة، وشحذ الهمم لإنشاء أو التعاون مع مؤسسات إعلامية وإغاثية.

4- إقامة معارض في المساجد ودور المناسبات والجمعيات والمنتديات، تُعرَض فيها صورٌ وأفلامٌ لما يحدُث على الأراضي الفلسطينية من مجازِر وانتِهاكات، تدعمها ندوات جماهيرية للمناقشة حول ما ينبغي عمله والأدوار المتاحة.

5- عدم إهمالِ أو إقصاء غير المسلمين في الخطاب الدعوي، ومحاولة إشراكهم على أساس من التفهُّمات المشتركة، وإبراز البعد الإنساني للقضية من خلال مفاهيم الحق والعدل والإنسانية.