في يوم وفاته

حياته ونشأته

الدكتور محمد عمارة مصطفى عمارة، ولد في 8 ديسمبر سنة 1931م في قرية (صروة) التابعة لمركز دسوق محافظة الغربية في ذلك الوقت، وهي حاليا تابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ.

كان والده فلاحا ممن يعيشون في الفئة الاجتماعية المتوسطة وكان أميّا متدينا يتحلى بنمط من التدين قد يكون غريبا على الكثير من الناس أو بعضهم.

وكان له ثلاثة إخوة من الذكور أكبر منه، وعندما كانت والدته حاملا فيه نذر والده لله إن قُدر هذا الحمل ولدا سوف يسميه محمدا ويهبه للعلم، وهو يقصد العلم الشرعي من قرآن وفقه وحديث، فتقبله ربه بقبول حسن، ووفى والده بما عاهد الله عليه فسماه محمدا، وحرص والده على تعليمه وتوفير سبل العلم له حتى لا يتوقف عن الدراسة لأسباب مادية، فوضع له وديعة تدرُّ له دخلا للإنفاق على تعليمه وأحضر له أحد فقهاء القرية لتعليم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وبعد ذلك دخل كتاب القرية.

الطالب الأزهري

وانتقل للالتحاق بالتعليم الابتدائي الأزهري في مدينة دسوق سنة 1945، وهو في الرابعة عشرة من عمره ، وكان شرط الالتحاق بالسنة الأولى الابتدائية الأزهرية أن يكون حافظا ومجودا للقرآن الكريم وملمًّا بقواعد الإملاء والحساب، وأن يكون جيد الخط، وتم اجتياز اختبارات القبول.

وقد بدت تتفتح وتنمو اهتماماته الوطنية والعربية، فشارك في صدر شبابه في الأحداث السياسية؛ ففي سنة 1946م حاول إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت أن يحمل الشعب على الموافقة على اتفاقيته المشئومة مع الإنجليز المعروفة باتفاقية (صدقي ـ بيفن)، فشارك في مدينة دسوق في التظاهر ضد الاتفاقية التي عارضها الشعب المصري وخرج في مظاهرات للتنديد بها، وفي سنة 1949م نال الشهادة الابتدائية في السنة الرابعة الابتدائي.

والتحق بالمعهد الأحمدي الثانوي بطنطا، وأثناء دراسته في المعهد الثانوي بطنطا انضم إلى حزب مصر الفتاة، وفي سنة 1950 و1951 كتب في صحيفتها شعرا ونثرا، وهو طالب في المعهد الثانوي، وكان أول مقال نشرته له صحيفة (مصر الفتاة) بعنوان: (جهاد عن فلسطين).

وكان معارضا للحكومة بصفته عضوا في حزب "مصر الفتاة" وانصبت كتاباته على نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية وحصل على الثانوية الأزهرية بمجموع مرتفع مكنّه من دخول كلية دار العلوم واجتاز امتحان القبول بها في ذلك الوقت.

وأثناء دراسته في دار العلوم كانت الأفكار الاشتراكية تأخذ مكانها، وكان حزب مصر الفتاة يمزج بين الفكر الاشتراكي والفكر الإسلامي، فامتزجت لديه النزعة الوطنية التحررية والنزعة الاجتماعية مع نزعة الانتماء الإسلامي.

وقد كانت قراءته لكتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مبكرًا السبب المباشر في ذلك، وقد تأثر بالفكر الاشتراكي تأثرا كبيرا؛ لدرجة أنه كان في قريته يعلق القصاصات التي تبرز ثورية الإسلام وعدالته وتقدميته.

من الفكر الماركسي إلى هدي الإسلام

حقا لقد عشق الحرية في كل شيء في حياته مما جعله ينضم إلى الاتجاه الذي يدعو إليها ويدافع عنها، وأحب كذلك التمرد على الظلم الاجتماعي الذي كان سائد في عصره وأحب العدل والمساواة، ومن هنا اكتسب ثقافة إسلامية أصيلة ممثلة في حفظه للقرآن الكريم ودراسته العلم الشرعي في الأزهر والانفتاح على الثقافة العصرية ممثلة في الاتجاه الماركسي الاشتراكي التي انضم إليه أثناء دراسته في كلية دار العلوم، وعن السبب في ماركسيته، فإنما يرجع إلى:

أولا: أنه مناضل مرتبط بمشكلات يومية وعملية ضد رموز الظلم الاجتماعي والإقطاعي في الريف المصري، ومرتبط بتنظيمات حزبية شرعية قائمة كمصر الفتاة، ثم حُلَّت هذه التنظيمات الحزبية، وتنظيم الثورة ينفر المناضل من الارتباط به لاعتماده على نفس الفئات والشرائح الاجتماعية التي كانت تمارس الظلم والاستبداد، والموجود في الساحة هي الحركات اليسارية التي تركز على قضية العدل الاجتماعي، ولا تثير قضية الدين في دعايتها، ولا تطرح تفسيرها المادي للخليقة على طاولة المناقشات أو الشعارات.

ثانيا: كان الفكر الماركسي ذا بريق، وهي أفكار بكر لم تكتشف مساوئها بعد.. وكانت شعارات اليسار شعارات جديدة وبراقة، فهم الذين يدعون للسلام العالمي، وكانت كلمة التقدم أو التقدمية حكرا عليهم، وكانت كلمات العدالة والطبقات الشعبية والفئات الكادحة والكفاح المسلح ضد الاستعمار حكرا على التيار اليساري مما جذبه للعمل المشترك معهم، وغضَّ الطرف عن هذه النقيصة، وهي الموقف المادي والتفسير المادي للخليقة .

وبالرغم من انبهاره بإيجابياته وإعجابه به إلا أنه رأى سلبياته القاتلة وأن تقدميته وافد غربي، فالغرب أراد أن تكون مرجعيتنا على نمط مرجعيته وليبراليتنا على نمط ليبراليته، وتقدميتنا على نمط تقدميته، وهذا هو الفخ المنصوب لحضارتنا، ومن هنا رأي الانتباه إلى قوميتنا، وطبيعة أمتنا أن نركز على هويتنا وتميزنا الحضاري، وبدأت تتخلق داخلي قضية الاستقلال الحضاري وتميز هويتنا العربية والإسلامية، وحسمت موقفي بأن العمل المشترك مع اليسار الإسلامي ليس المكان الطبيعي.

وفي دار العلوم كانت له نشاطات في العمل الوطني والفكري والثقافي مما عرضه للفصل لمدة عام سنة 1957، وفي يناير 1959م وهو في السنة الرابعة بكلية دار العلوم تم اعتقاله لمدة خمس سنوات ونصف أثناء فترة اعتقالات التيار اليساري في مصر، وبعد خروجه من المعتقل حصل على الليسانس سنة 1965م وعمره أربع وثلاثين سنة.

التحق بالدراسات العليا بالكلية وتخصص في الفلسفة الإسلامية ونال درجة الماجستير عن موضوعه: مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة سنة 1970، وقد اشتهرت كتاباته في الأوساط العلمية، فكان يكتب في كثير من الصحف في تلك الفترة، وصدر له كتب، ومنها:

1ـ الأمة العربية وقضية الوحدة ، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر ، القاهرة 1966م .

2ـ العروبة في العصر الحديث ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ،1967م .

3ـ مسلمون ثوار، دار الهلال القاهرة 1971م .

4ـ المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد.دار المعارف ، القاهرة ، 1971م .

5 ـ المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية.المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1972م .

6ـ معارك العرب ضد الغزاة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1972م.

7 ـ عندما أصبحت مصر عربية إسلامية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1974م.

8 ـ نظرة جديدة إلى التراث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1974م.

وفي تلك الفترة في أوائل السبعينيات بدأ التحول الفكري من الاتجاه الماركسي الاشتراكي إلى الإسلام بعد أن تشرب الفكر الاشتراكي وعرف سلبياته، وأدرك أن ما به من محاسن فهو موجود بالفعل في الإسلام، لذلك بدأ نشاطه العلمي في إظهار محاسن الإسلام وتعرية دعاة الماركسية الاشتراكية مستخدما مصطلحاتهم البراقة التي يجذبون الناس إليها، مثل: الحرية والعدالة والتكافل الاجتماعي، وغيرها مما لا تختلف عليها أي إنسان.

وأثناء مناقشة رسالته للدكتوراه أعرب أحد أساتذة أنه أصبح مشهورا ومعروفا في الأوساط العلمية أكثر من أساتذته، وناقش الدكتوراه سنة 1975م في موضوع: نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة، وتم التصديق على الدكتوراه بعد عام بسبب أن أحد الأستاذة عرقل التصديق عليها بحجة أن بها آراء مجددة وآراء لا يرضى عنها.

أخلاقه

عاش الدكتور محمد عمارة حياة بسيطة لا يطلب من الدنيا مغانم ولا يلهث وراء منصب أو جاه، يقول أحد تلامذته: لقد زرته أثناء إعدادي رسالتي للماجستير منذ أكثر من عشر سنوات في منزله في 36 شارع الزيتون بحدائق الزيتون في القاهرة ، فوجدت الرجل الذي ملأ الدنيا كتبا ومقالات وأحاديث في القنوات والمؤتمرات وقوة حجة في المناظرات بسيطا جدا متواضعا في غير تكلف ، ما إن قلت له إني من دسوق حتى قال في تواضع ما معناه بالفصحى: نحن إذن من بلد واحدة.

لمست فيه خلقا رفيعا لا تجده كثيرا عند أمثاله، كانت يتحدث معي كصديق وأخ كأن بيننا مودة قديمة دون أن أشعر بشيء يفصل بيني وبينه، وأن السنوات التي بيننا قد أذابها أدبه وخلقه الرفيع، وأن علمه الغزير تركه وراء ظهره، وأقبل علي بطلاقة وجهه، والمهابة التي تمتلك أي إنسان عندما يقابل أحد أعلام الفضائيات لا وجود لها في عالمه، إنك عندما تجالسه وتتكلم ينصت باهتمام كأنه يسمع كلامك لأول مرة، يسألك مستفسرا حتى تشعر أنك العالم وهو المتعلم، ينصت إليك باهتمام فتظن أنك أضفت إلى جديدا لا يعلمه، وهو البحر الذي استوعب الثقافتين الإسلامية والغربية.. يجلس معك كما تشاء دون أن يشعرك أنه مشغول بغيرك، أو تجد ما يشعرك بشيء من ذلك حتى تظن أنه ليس هو الذي تراه في الفضائيات والمؤتمرات، تشعر أنك في روضة فيحاء، تخرج من عنده؛ فتكتسب أخلاقا لم يكلمك عنها، تشعر حقيقة أنك سعيد، وأن سعادتك لا يمكن أن تقدر بمال.

إنه يعيش حياة بسيطة في بيت تجرد من زينة الدنيا غني بالعلم والمعرفة والراحة والسعادة، مليء بالدفء والحنان الأسري، إنه يملك كنزا لا يملكه ملوك الدنيا، وإن كثرت خزائنهم واتسع ملكهم، وزاد حُرّاسهم، وبالغ الناس في استقبالهم، حقيقة لو أراد المناصب والأموال لنال منها ما تشتهي نفسه وتتمنى، لكن نفسه لا تطلب غير رضا الله، ومن يطلب رضا الله لا يلتفت لعرض الدنيا، رضاء الناس وسخطهم عنده سواء.

حياته الاجتماعية

رزقه الله من الأولاد خالد ونهاد، ولنستمع إليه، وهو يوضح أسلوبه في تربية أولاده ووفائه لزوجته، فيقول: بدعابة ذات مغزى: إن ابنه د. خالد، وابنته الباحثة نهاد وُلدا "في المكتبة"، ويردف: كان لي منهج في تربية خالد ونهاد يعتمد على خلق ألفة بينهما وبين الكتاب، فكانت لعبتهما الأثيرة "الشخبطة" بالقلم على الورق، وكانت هداياي لهما في كل المناسبات كتبًا، يقرءون إهداءاتها فيرتبطون أكثر بالقراءة التي نشئوا يحبونها، وهذا أدى إلى انضباط البيت وهدوئه، فقد كانا يذهبان إلى المدرسة ويتركانني أقرأ، ويعودان ليجداني أكتب، إنهما عاشقان للكتب، ولكنهما اختارا طريقًا علميًا، فخالد مدرّس طب العظام بجامعة عين شمس، وزوجته أيضًا طبيبة، ونهاد تخرجت في كلية العلوم قسم كيمياء حيوية، وأعدت الماجستير في النباتات الطبية، ولديّ حفيدان "أحمد وعمر".

وبلهجة تفيض امتنانًا يقول د. محمد عمارة : من أكبر نعم الله على الإنسان أن يمنحه أسرة مستقرة وزوجة صالحة، وقد حملت زوجتي عني عبئًا كبيرًا ليس فقط في تربية الأولاد، بل في إيثارها لي على نفسها لأتفرغ لمشروعي الفكري، فقد ضحت بدراستها العليا، وتحملت معي صعوبات البداية الكثيرة، وكنا ما زلنا متفقين على أن نجاح أسرتنا وأية أسرة يتوقف على بذل جهد كبير لبناء أسرة مسلمة، فالمال يأتي ويذهب، وقد كان دخلي ضعيفًا جدًا، ولم يدفعني هذا إلى السفر أو قبول وظائف تعطلني عن هدفي، وأعانتني زوجتي الفاضلة، وتفرغت لمشروعي الفكري، وجاء المال - بفضل الله - بعد ذلك وعلى مهل ودون عجلة، وما زالت زوجتي - خريجة الزراعة - تعمل في مركز بحوث الصحراء دون أن تشعرني في أية لحظة بأنها مقصرة في حقي وحقوق بيتها.

مؤثراته الفكرية

لقد لعبت عدة عوامل رئيسة في تشكيل ثقافته واهتماماته الفكرية، وهي:

ثقافته الإسلامية الأزهرية

كان لحفظه القرآن الكريم ودراسة علوم الشريعة الإسلامية أثر كبير في فكره، ورجوعه إلى الإسلام، وأدرك أن ما في الماركسية من محاسن فهو في الإسلام بضوابط وأخلاقيات، ليست مطلقة كما في المذاهب الغربية، ولعل افتقاد الثقافة الإسلامية لدى كثير من الليبراليين هي السبب الرئيس في الشبهات التي تدور بأذهانهم حول الإسلام، وفصل الدين عن الدولة، وعلاقة الإسلام بالسياسة.

ثقافته الفكرية المعاصرة

كان لفكره الماركسي أثر في إطلاعه على الثقافة الغربية وإدراك مثالبها مما ممكنه من امتلاك أساليب الرد والحوار والمناقشة وامتلاك الحجة القوية وإزالة الشبهات التي تثار حول الإسلام.

شخصيته

لعبت شخصيته وميوله الثورية المؤمنة بالحرية والعدالة أثرها في تشكيل فكره وثقافته واهتماماته، فدفعه إيمانه بالحرية إلى رفض العمل الجامعي والاشتغال بأي منصب من المناصب حتى يظل حرا ليس ملكا أو أسير لأي جهة، ودفعه إيمانه بالحرية إلى انضمامه إلى الفكر الماركسي الذي يدعو إلى الحرية ثم تركه وقرر أن يكون حرا لا ينتمي لأي جماعة من الجماعات حتى لا يكون أسير فكرها. وقد كان لإيمانه بالحرية أثر في اختيار موضوعاته التي كتب عنها، فنجد رسالته للماجستير: مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة وكتابه: مسلمون ثوار.

وقد كان لهذه العوامل أثرها في اتجاهه إلى إبراز محاسن الإسلام وتعرية خصومه، وإن أهم ما يميز فكره هو إيمانه ودفاعه عن وحدة الأمة الإسلامية, وتدعيم شرعيتها في مواجهة نفي البعض لها، وهو ينتمي إلى المدرسة الوسطية ويدعو إليها، فيقول عنها إنها (الوسطية الجامعة) التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقف جديد مغاير للقطبين المختلفين، لكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، والوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي والفكرية الإسلامية، والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير أو يجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع،

ولذلك فهو يرى أنه يجب علينا الانفتاح على كل التجارب والتيارات الفكرية والحضارات والاستفادة من التجارب الإنسانية بأجمعها، لكن بشرط أن يكون لدينا موقف نقدي راشد ومستقل.

وتبرز في أعماله الفكرية اهتماماته بقضايا الفكر الإسلامي المتنوعة قديمها وحديثها كذلك قضايا التراث الفكري والفلسفي والحضاري في محاولة جادة للإسهام في صياغة المشروع الحضاري العربي الإسلامي البديل عن مشروع التغريب كما تتميز كتاباته بالنظرة النقدية لتراث حقبة التراجع والجمود في تاريخنا الحضاري وبقراءة جديدة لأصولنا الفكرية في ضوء متغيرات العصر ومنطلق الأصالة الإسلامية المعاصرة المتميزة.

ويتميز الدكتور عمارة بمواكبة الأحداث وسعة الإطلاع على مختلف المؤلفات والثقافات المتنوعة، فجمع بين الإطلاع على الثقافة العربية الأصيلة والثقافة الغربية واتجاهاتها، وهو يحاول تقديم مشروع حضاري يقوم على أسس إسلامية للأمة العربية والإسلامية في المرحلة التي تعيش فيها.

معاركه الفكرية

حقا.. كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين.

ولعلنا في حديثنا عن معارك الدكتور عمارة نتذكر المعارك التي خاضها المعتزلة مع فلاسفة الإلحاد في عصرهم ومناظرتهم العقلية للاستدلال على وجود الله، وقد أبلوا بلاء حسنا في إفحام الخصوم والذود عن الشريعة بأسلوب عقلي محض، لم يكن غيرهم من علماء الفقه يستطيع ذلك مثلهم، فكان الفقهاء كلما قالوا قال الله يقالون لا نؤمن إلا بما ندركه بعقولنا، فناظرهم المعتزلة ودحضوا شبهاتهم.

ونحن اليوم أمام نفس الفكر الذي يُحَكِّم العقل ويستدل به على أمور كثيرة في عصرنا، وقد خاض الدكتور عمارة العديد من المعارك والمناظرات حول القضايا الفكرية التي يثيرها العلمانيين حول الإسلام وعلاقته بالدولة والأقباط والمرأة، وغير ذلك كثير، ونظرا لكثرة الموضوعات والقضايا الفكرية التي خاضها، فإننا سنقتصر على أبرزها، ومنها:

حول العلمانية

كتب الدكتور عمارة كثيرا من الكتب عن العلمانية موضحا حقيقتها، وأنه ترجع نسبتها إلى العالم وليس للعلم، فيقال العلمانية وليس العلمانية، فهي لا تؤمن بإله للكون، وترجع صدى لأوربا، والعالمنيون يريدون منا أن نكون علمانيين مثل أوربا.

وردّ في كتابه (سقوط الغلو العلماني) على سعيد عشماوي وافتراءاته، ومما جاء في عناوين فصوله يتضح لنا أسلوبه في الرد عليهم:

الباب الأول: الرؤية العشماوية : للإسلام .. وقرآنه الكريم .. ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وصحابة رسوله رضي الله عنهم .. وخلافته وفقهائه .. وأمته.. وتاريخه.

الباب الثاني: الرؤية العشماوية لعلاقة الدين بالدولة.

الباب الثالث: الرؤية العشماوية للشريعة الإسلامية.

وفي سنة 1993م شارك في مناظرة العلمانيين في معرض الكتاب بالقاهرة، وجهوده في تعرية العلمانيين كثيرة تبدو في كتبه عنهم وأحاديثه ومناظراته.

حول الأقباط

أسهم بالتأليف عن الأقباط بكتب ، منها : ( في المسألة القبطية حقائق و أوهام ) ،و(عروبة مصر وأقباطها ) ، و ( أكذوبة الاضطهاد الديني في مصر ) ،و( الأقباط المتطرفون في مصر)، و(الفتنة الطائفية.. متى وكيف ولماذا؟).

تعرض فيه لما يثيره الأقباط من اضطهادهم، ومحاولاتهم بين الحين والآخر زعزعت الاستقرار في مصر وطلب التدخل الأجنبي في مصر تحت مسمى الاضطهاد الديني، وتصدى لما يثيره الأقباط من تهجم على الإسلام والإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفى يناير 2009م عندما نشر أحد الأقباط في الكنيسة كلاما يسيء فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكتب يرد عليه ، ومن ذلك قوله :

ويبدو أن الأرثوذكسية المصرية قد أبت إلا أن تسقط ـ هي الأخرى ـ في هذا المستنقع ـ مستنقع السُّباب لرسول الإسلام ـ فألقت ببذاءتها القبطية في محاضرات ومسرحيات كنسيّة .. ثم كتابات على الشبكة العالمية للمعلومات الإنترنت ..

وفي هذه البذاءات القبطية قالوا عن رسول الإسلام ـ صاحبِ الخلق العظيم ـ الذي أوصى بالقبط خيرًا .. والذي أنقذ صحابتُه النصرانيةَ الشرقية من الإبادة الرومانية .. وحرروا أوطان الشرق وعقائده وشعوبه .. ثم تركوا الناس وما يدينون ، حتى أن نسبة المسلمين في الشرق الإسلامي ، بعد قرن من الفتوحات الإسلامية ، لم تتعد 20 % من سكان الدولة الإسلامية !! .

وفي حديثه لقناة للجزيرة هذا العام 2011م حول الفتنة الطائفية في مصر:

يرى أن أساس الفتنة الطائفية سببها البابا شنودة ، و يتساءل لماذا لم تقم أي فتنة طائفية في مصر قبل البابا شنودة ، هذا مخطط البابا شنودة ، الأنبا بيشوى قال إن المسلمين ضيوف عندنا وقاله أيضا البابا شنودة . وقد نشر البابا شنودة في مجلة الهلال في ديسمبر سنة 1970 كلاما يلوى فيه عنق الآيات القرآنية لتشهد للعقائد المسيحية كما صنع بيشوى نحن أمام فكر مؤسسي ، وليس خطأ وقع فيه الأنبا بيشوى، الكنيسة دولة فوق الدولة .كان الشباب في الكاتدرائية العباسية يتظاهرون داخلها بشعارات ضد الدولة ، مرددين : يا شارون فينك فينك .لماذا ؟!!

ويطلب أن تعود الكنيسة إلى رسالتها الروحية ويندمج الأقباط داخل المؤسسات المدنية ويتركون لغة الاستقواء بالغرب.

وقد اعتبر الأقباط أن كتابات وأحاديث الدكتور عمارة فيها تعصب وتحريض ضدهم وتجريح في عقائدهم ، وتقدموا ببلاغ للنائب العام ضده تبين فيها عدم صحة ما ذهبوا إليه .

حول المرأة

أسهم الدكتور محمد عمارة في كتبه وأحاديثه حول المرأة و مظاهر تكريم الإسلام لها ، ورد على الشبهات التي يثيرها العالمنيون حول المرأة في الإسلام والظلم الاجتماعي لها ، ومن كتبه في هذا الصدد : )الإسلام والمرأة ) و)تحرير المرأة بين الغرب والإسلام ) و )شبهات و إجابات حول مكانة المرأة في الإسلام ) و)التحرير الإسلامي للمرأة) و)في التحرير الإسلامي للمرأة).

وكتب كثيرا من الكتب حول الهوية الثقافية للأمة في عصر العولمة والمعطيات الحضارية للإسلام ، وأبرز الوجه المشرق للإسلام تاريخا وثقافة وحضارة ، ورد على ما يثار حوله .

يوم التكريم والوفاء

نظم مركز الإعلام العربي مؤتمرا في 2 من نوفمبر 2011م لتكريم الدكتور محمد عمارة بنقابة الصحفيين بمصر، وحضر حفل التكريم قيادات جماعة الإخوان المسلمين ، ورموز الفكر الإسلامي ، ومنهم : الدكتور يوسف القرضاوي و المستشار طارق البشري، والدكتورة آمنة نصير الأستاذة بجامعة الأزهر، والكاتب فهمي هويدي ، والدكتور أحمد كمال أبو المجد. والدكتورة نادية مصطفى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة .وغيرهم .

وتم في الاحتفال عرض فيلم تسجيلي تناول المشوار الفكري لعمارة، فأبرز المحطات الرئيسية التي مر بها في مسيرته الفكرية وتطرق لمقتطفات من عدد من المؤلفات التي تبرز جهد عمارة في دعم القضية الفلسطينية والتراث الحضاري الإسلامي والهوية الإسلامية في مواجهة التغريب.وبدأت كلمات أعلام الفكر وأساتذة الجامعات عن الدكتور عمارة .

وعرض المستشار طارق البشري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة الأسبق خلال كلمة ألقاها لمنهج الدكتور عمارة في الوسطية وتدقيقه وتحقيقه في كتاباته، لافتا إلى أن المدرسة التي ينتمي إليها في الوسطية هي ذات المدرسة التي كان عليها المفكر الراحل عادل حسين رئيس تحرير جريدة "الشعب" مع اختلاف البنية الثقافية والخبرات العملية لكل منهما.

وأشاد البشري بالإسهامات الفكرية التي قدمها خلال مشواره الطويل، وقال: "الدكتور محمد عمارة ممكن تسميته بمؤسسة محمد عمارة وليس الدكتور عمارة، نظرا لأن ما قام به في محال الفكر الإسلامي تعجز مؤسسة بأكملها عن القيام به".

وأشاد رئيس اتحاد علماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي بمناقب عمارة ونضاله من أجل الدعوة إلى الله والحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية، ووصفه بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.وحث العلامة القرضاوي الأمة على الإسراع بتكريم علمائها والاحتفاء بهم وهم إحياء، مشيرا إلى أن المسلمين لا يحسنون التقدير والاحتفاء بالعلماء إلا بعد وفاتهم بخلاف العلمانيين الذين يقدرون قيمة علمائهم ويدافع بعضهم عن بعض.

ووصف القرضاوي المفكر عمارة بأنه صاحب صولات وجولات قوية في تعرية أعداء الإسلام، وقال إنه كان خلفا للإمام الراحل محمد الغزالي (1917-1996) في الدفاع عن الأمة الإسلامية وتاريخها وحضارتها، من خلال إجادته للأسلحة التي يمتلكها، وقد جعلته يقف مدافعا ومنافحا عن الإسلام ليظل الدين الإسلامي صخرة عاتية تتحطم عليها دعاوى التبشير والتشكيك.

وأشاد القرضاوي بالمعارك الفكرية التي خاضها عمارة دفاعا عن الإسلام. وأشاد العلماء والمثقفون بمسيرة عمارة وحرصوا على إلقاء كلمات للاحتفاء بعلمه وإسهاماته الفكرية المتميزة، حيث أوضح عضو مجمع البحوث الإسلامية أحمد كمال أبو المجد أن الطريق الذي انتهجه عمارة هو الطريق الذي كان يتمناه لنفسه.

ونوه بأن عمارة كان له دور في نشر رسالة الرحمة الإسلامية، التي لا غموض فيها بعد أن أصيبت أمتنا بالسيئتين، وهما الجمود والانفلات، وانقسمت الأمة على إثرها إلى فئتين.

ومن جهته وصف الدكتور جابر قميحة الدكتور عمارة بأنه كان نموذجا للوسطية الشاملة العادلة، وتميز "بالرجوع إلى الحق إذا تبين له أنه خالف الصواب"، وأوضح أن عمارة أصبح على رأس المصلحين والمجددين في هذا العصر بفضل علمه الموسوعي الذي جعله يتبوأ هذا الموقع .وأشاد بقدرة الدكتور عمارة في الجمع بين الآداب المكتوبة من خلال دراساته وأبحاثه والأداء المنطوق من خلال محاضراته.

وأثنت الدكتورة نادية مصطفى رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة على منهجية الفكر والعلم لدى المفكر الكبير التي اعتبرت أن غيابها من الأمة هو الأزمة، باعتبارها قضية حيوية، حيث أن أزمة الأمة لا تتمثل في أزمة موارد بقدر ما تتمثل في غياب المنهجية في الفكر والعلم.

ووصفت الدكتور عمارة بأنه يمثل قوة الحق وحق القوة وتميز بتعددية روافده الفكرية والاهتمام بمصادر لمعلومات، وكذلك اهتمامه بالمفاهيم المقارنة في تناول القضايا للمساعدة في تخلصينا من أزمتنا الفكرية، كما أنه يقدم الأبعاد والمقارنة في القضية الواحدة، وبالتالي لم يكن الغرب سواء لديه.

وقال الدكتور عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية "لقد واجه الدكتور عمارة التيارات المعاصرة بقوة وعلم، وهي التيارات التي أرادوا أن يخدعونا بها وهي في حقيقتها لا شيء".

وأعلن الدكتور محمد المختار المهدي رئيس الجمعية الإسلامية عن قرار مجلس الإدارة ترشيح الدكتور محمد عمارة لنيل جائزة الملك فيصل العالمية، نظرا لتقدير الجمعية لجهوده واعتبره أجدر من يستحق الجائزة منذ زمن بعيد.

موقفه أثناء الثورة

في الأيام الأولى للثورة أصدر الدكتور عمارة بالاشتراك مع علماء آخرين بيانا للخروج من الأزمة ، وفى حديث لقناة الجزيرة الإخبارية الفضائية أثناء الثورة ، أدلى بحديث للقناة ، فقال :

إننا أمام ثورة شعبية من أعمق الثورات الشعبية التي عاشتها مصر في العصر الحديث .أريد أن أقول إن هذه الملحمة و الثورة الشعبية قد كشفت الغبار و المعدن الحقيقي لهذا الشعب الأصيل .

بعض الناس يتكلم على أن الزمن قد طال وأنا أُنبّه أن هذه ليست حقيقة ، فإن الشعب المصري في الثورة العرابية استمرت ثورته أكثر من عام .الشعب المصري في ثورة 1919م استمر نحوا من عامين . الشعب المصري وقف ضد بونابرت الذي دوخ أوربا ودوخ الدنيا ، وهرب من مصر بليل ، واستمرت ثورته نحو عامين بالرغم من أن بونابرت قتل خلال العامين سُبْع الشعب المصري ، قتل 300 ألف خلال العامين من شعب يبلغ سكانه أقل من ثلاثة ملايين .

أنا أقول : على الشعب رغم كل البيانات والخطب أن يظل في ثورته مؤججا هذه الثورة ، صانعا هذا المجد الثوري حتى تتحقق مطالبه .....والضمان الأول والأساسي والحقيقي هو بقاء الثورة مشتعلة حتى تتحقق كل مطالب الثورة . نحن نراهن على النفس الطويل ....وأنا أقول إن هذه الثورة في شعبتها أوسع انتشارا وأعمق انتصارا....

هذا النظام نظام متهاوي ، وأنا أقول إن قضيتنا ليس في إسقاط مبارك ، لكن إسقاط نظام مبارك ، هذا النظام الذي عاث فسادا على مر ثلاثة عقود ، هذا النظام الذي وصفته إسرائيل بأنه الكنز الاستراتيجي لأمن إسرائيل ، هذا عار على مصر لابد أن يزال .

في حديث آخر لقناة الجزيرة مباشر أثناء الثورة  : لم تتحرك الأمة في مواجهة حاكم كما تحركت في مواجهة حسنى مبارك ولم يحدث إهانة لحاكم في التاريخ في مظاهرات كما حدث لحسنى مبارك .

وقال أيضا بعد الرحيل : إنه شهد رحيل الملوك فؤاد، وفاروق، وأحمد فؤاد، والرؤساء محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، ومحمد أنور السادات ، لكنه لم يشهد رحيل حاكم شهد هذا الازدراء والمهانة مثلما حدث مع الرئيس مبارك ، مشيرا إلى أن هذا ليس من فراغ، بل هناك أسباب كافية لحدوث ذلك.

ثورة 25 يناير في كتاب

وقام الدكتور عمارة بتوثيق الثورة في كتاب ، فقد صدر حديثا عن دار السلام للنشر والتوزيع بالقاهرة، كتاب: "ثورة 25 يناير، وكسر حاجز الخوف " للدكتور محمد عمارة.ويرصد في الكتاب الذي يقع في 142 صفحة من القطع الصغير، التعريفات المختلفة للثورة في الفقه الإسلامي، مشيرا إلى أن أهل السنة يوافقون على خلع الإمام الجائر بشرط ألا يستلزم ذلك فتنة وقتالا وهياجا، وهو ما اعتبره نوع من التحفظ على التغيير بالثورة.

ويقول: "إن الجور منكر وتغيير المنكر فريضة ثابتة بالكتاب والسنة شريطة ألا يؤدى تغيير المنكر إلى منكر أشد، وأغلب أئمة الإسلام قد أيدوا الثورات وبايعوا الثوار وتحملوا في سبيل ذلك إيذاءً شديدا".

ويفند عمارة آراء من أسماهم بـ "علماء السوء" و"فقهاء السلاطين" الذين يزعمون أن الإسلام يوجب على الرعية طاعة الحكام في كل الأحوال، وأنه يطلب من الأمة شكر الحاكم إذا عدل، والصبر على ظلمه إن كان ظالما".

ويرى أن كل ما خرج عن القسم الخاص بتبليغ الرسالة الدينية ليس دينا، "وإنما دنيا وسياسة على العقل المسلم أن يتناول موضوعها ابتداء بالنظر والاجتهاد دون تقيد بما يروى من النصوص والمأثورات".

وأوضح د . عمارة أن مصر عرفت الثورات الشعبية في عصرها الحديث أكثر مما عرفت كثير من البلاد، "حيث شهدت ثورة علماء الأزهر ضد الوالي التركي 1805، وثورة عرابي 1881، وثورة 1919، وثورة 1952 وأخيرا ثورة 25 يناير.

وأشار إلى أن ثورة يناير جاءت بسبب الفقر والإحباط الذي دفع قطاعات من الشباب للمغامرة بالهجرة غير الشرعية بل والعمل في إسرائيل، إضافة إلى تكريس جهاز الشرطة الذي زاد عدده عن عدد الجيش لحراسة النظام والأسرة الحاكمة وقهر الشعب، وتزوير إرادة الأمة في الانتخابات والاستفتاءات.

وتحت عنوان آفاق المستقبل ناقش المفكر الإسلامي مفاهيم الدولة المدنية، والمرجعية الإسلامية، وعلاقة المواطنة بإسلامية الدولة، وعلمانيتها وما يثور حول الفوارق المنهجية بين الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية.