بقلم: د. علي الصلابي

إن فيروس كورونا آية من آيات الله في خلقه وتدبيره وفق حكمته ومشيئته. وإني أراه رحمة ببني الإنسان تتجلى في هذا الابتلاء العظيم والمحن والمصاعب التي نزلت بنا نحن بني آدم، وهذا المصاب الجلل أحدث زلزالاً روحياً عظيماً، وهزَّ الفِطرة في أعماقها وأغوارها؛ لإزاحة الصدأ عن أرواح كثير من بني البشر، لتحقيق أشواقها المكنونة، بعدما تشبعت بقضاياها المادية، ومعارفها العقلية، واكتشافاتها لقوانين الحياة والمادة، وحدث لها ضموراً روحياً وتصحراً وعطشاً هائلاً عظيمًا.

فمن رحمة الله بهذا الإنسان أن جاء هذا الحدث التاريخي الكبير، فعرف ضَعفه وعَجزه واضطرَّ لدعاء ربه الخالق العظيم. فطبيعة البشر التي خلق الله عليها الناس عندما يشعرون بالخطر والكروب والشدائد والابتلاءات فإنهم يلجأون من أعماقهم بإخلاص عظيم إلى خالقهم (سبحانه وتعالى) سواء كان هذا الإنسان مؤمناً أو كافراً. وفي تلك الأوقات العصيبة تتجلى الحقائق، وتضمحل الأوهام، ويضعف استفزاز إبليس بصوته وتخبو جلبته بخيله ورَجلِه ومشاركته للناس في أموالهم في الربا والحرام ولأولادهم في الزنا والفساد. فعندما تنهار المؤسسات الربوية الإبليسية، أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما تُقفَل النوادي الليلية وتنخفض نسبة بيع الخمور ويعزف الناس عن الدعارة ويتحررون من الشبهات والشهوات وترجع إليهم عقولهم للتفكير في هذا المصاب الكبير فتقودهم إلى خالقهم الرحمن الرحيم، فينكسرون ويتضرعون بين يديه. أليس هذا من رحمة الله!؟ ويبحث المفكرون والمثقفون والعلماء والسياسيون عن الحلول الناجعة، فإذا بإرشادات النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعاليمه تحيا من جديد، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواء". وينتشر هديه في الطهارة ورفع النجاسة والحجر الصحي، وتَكتب كبرى الصحف العالمية عن ذلك. أليس هذا من رحمة الله!؟

ويَسمع بني الإنسان الآيات المزلزة المذكرة له بفطرته فيتجاوب معها، كقوله تعالى: "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (سورة النمل: 62).. أليس هذا من رحمة الله!؟ وكقوله تعالى: "قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" (سورة الأنعام: 63 – 64).. أليس هذا من رحمة الله!؟

وكقوله تعالى: "فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۗ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". (يونس: 23). فعندما نتأمل في هذه الحقائق والمعاني القرآنية العظيمة.. أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما تتبخر وعود الشياطين الزائفة، وتنهار أمام أصحابها في القِمار والربا والظلم وسفك الدماء وأخذ أموال الناس بالباطل سواء أفراداً أو شعوباً... أليس هذا من رحمة الله!؟ وعندما نرى اسم الله (الرافع) في خلقه بقلوب مفتوحة، وعقول متدبرة، ونرى اسم الله (الخافض) في المخلوقين، واسمه (المحيي) و(المميت) و(الوارث)... أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما يرجع الإنسان إلى إنسانيته وحقيقته، ويُجيب عن هذه الأسئلة الوجودية الكبرى من أين أتيت ولماذا خلقت وإلى أين المصير وإلى آخره من الأسئلة. كقوله تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)" (سورة الطور: 35 – 37). ولو يتأمل في هذه الأسئلة، فإنه سيصل إلى إجابات مقنعة بعقله وقلبه وفطرته ويتجاوب معها بشفافية ماتعة ومقنعة فيجيب من أعماقه، بقوله: "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ " (سورة إبراهيم: 10)... أليس هذا من رحمة الله!؟

وتتجاوب فطرته مع قول الله تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)" (المؤمنون: 115). أليس هذا من رحمة الله!؟ إن هذا البلاء يحمل في طياته رحماتٍ ونعمٍ لا تعد ولا تحصى... وتدبر معي في قوله الله تعالى: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام: 54). وفي الحديث القدسي: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي". إن ربنا العظيم الذي خلقنا وخلق هذا الخلق يستحيل أن يكون إلا رحيماً، فرحمته من لوازم ذاته، ولهذا كتب على نفسه الرحمة، ولم يكتب على نفسه الغضب. وقد قالت الملائكة في دعائها: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ" (سورة غافر: 7).

إن هذا الحدث تتجلى فيه رحمات الله عندما اضطر الكثير من الغافلين بالرجوع إليه ودعائه والاستغاثة به والتضرع والانكسار بين يديه. إن أرواح بني آدم التي في أجسادها بعد هذا الحدث أزيلت عن كثير منها أغلال الشهوات المحرمة، وانهزمت الشبهات الإبليسية الداعية إلى الإلحاد، وتفجرت معاني الأشواق الروحية لتتصل بخالقها العظيم تائبة وطالبة للمغفرة والرحمة والرضوان.. أليس هذا من رحمة الله!.

إن هذا الحدث الجلل والابتلاء الكبير ساهم في إحياء القلوب وانبعاث الأرواح وأزاح الغشاوات عن العقول.. أوليس هذا من رحمة الله!؟ إن رحمة ربي الكبير المتعالي تتجلى في هذه المصائب والمكروهات التي قدرها علينا في هذه الأوقات، وإن كانت لنا مؤذية ومكروهة إلا أن في طياتها رحمة وخير كثيراً.. قال تعالى: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)" (سورة البقرة: 216).. وقال تعالى: "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: 19). أليس هذا من رحمة الله!؟

أوليس أبناء الإنسانية اليوم في حالة من الذهول من عظمة وقدرة الخالق وحالة من الرجاء والتعلق في رحمة الله (سبحانه وتعالى). وبأن كل صاحب فطرةٍ سوية لسان حاله بأن ربه كريم ورحمن ورحيم وغفار وحفيظ، فأمله في فضله وإحسانه ورحمته وعفوه وصفحه وغفرانه وحفظه، وهو ما لا تُعبر عنه الألسن ولا تحيط به الأفكار.

أيها الإنسان أينما كنت قل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، وتصور ما شئت عن رحمة الله فإنها فوق ما تتصور. يا بني آدم ربنا يريدك أن تتعرف عليه وترجع إليه من خلال هذا الحدث بل الزلزال العظيم وغيره من الأحداث، والطريق إليه في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.