عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار، فإننا نتحدث عن موقعة بالفعل غيرت خريطة العالم، ورفعت كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرت بها الأمة الإسلامية وغير الإسلامية.. العالم كله كان قد عانى معاناة شديدة من كارثة كادت تقضي على كل صور ومظاهر الحضارة في العالم، لولا موقعة عين جالوت التي ردت للناس الأمة والأمان في العالم كله.
 
ظهور التتار.. وحال الأمة

قبل أن نتحدث عن عين جالوت لا بد أولاً أن نعرف من هم التتار الذين سقطوا في الموقعة.. التتار دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603هـ، وأنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفاحي ومجرمي العالم جنكيز خان، كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، وكان عنده قدرة كبيرة على القيادة والتجميع، فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا، كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جنكيز خان، الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها، وكانت المملكة الخوارزمية -وهي جزء من الممالك الإسلامية، وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان- ملاصقة له، وبدأ يغزو تلك البلاد واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيل، لدرجة أنه في سنة 617هـ استطاعت جيوشه أن تحتل العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تتخيل من الأرض والكثافة السكانية العالية.. وسبحان الله جيوشه كانت في منتهى القوة والعنف والإرهاب!!

وهذا يظهر لنا الوضع الذي كان عليه المسلمون؛ ضعف شديد.. فرقة وبعد المسئولين عن الدين.. وتمسك المسلمين بالدنيا.. وانفصال الحكام عن المحكومين.. أمور وأمراض كثيرة أدت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات. والتتار أدخلوا في حكمهم خلال هذه السنة 617هـ كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان وأجزاء ضخمة جدًّا من إيران شمال وشرق وغرب إيران وأذربيجان كلها، وأرمينيا ولم تكن مسلمة كانت نصرانية، والكورج دولة جورجيا الآن، والشيشان ودخيستان وجنوب روسيا، كل هذا في عام واحد.

الاجتياح التتري البربري

دموية التتار شديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها؛ رجالاً ونساء وأطفالاً، محاربين ومدنيين، كل شيء يقتل، يأخذ البلد بكل ثروتها، ويزيح السكان من طريقه..

من أشهر الأمثلة غزو مدينة (مروى) الإسلامية التي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد، وهي تقع بين التركمانستان وإيران، وهذه المدينة سكانها كانوا 900 ألف، 200 ألف خرجوا لمحاربة التتار وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصروا المدينة وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد وسفكوا دم 700 ألف، قتلوا المدينة كلها ولم يبق بها حي واحد. واختفت (مروى) ولم يعد لها وجود حتى على الخريطة، وهكذا أكثر من مدينة.

والتتار لم يكتفوا بغزو العالم الإسلامي فقط، لكن جاوزوه بعد ذلك إلى أوربا؛ لهذا أقول: إن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط، لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار.

ودخلوا على أوربا في الثلاثينيات من القرن السابع الهجري من 629 إلى 634هـ، اجتاحوا كل روسيا 17 مليون كيلو متر مربع، سقطت كلها ودمرت موسكو عن آخرها، وجاوز تركيا على أوكرانيا ودمروا كييف العاصمة، ثم اتجهوا إلى بولندا، وتعاون ملك بولندا وملك ألمانيا لحرب التتار، فسحق الجيش البولندي والألماني، وانتقلوا إلى المجر وكرواتيا، ووصلوا إلى ساحل البحر الأدرياتي، نصف أوربا الشرقية كله تحت حكم التتار، وأصبحت دولة التتار سنة 639هـ تصل من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، كل آسيا ونصف أوروبا.

وبعد ذلك وفي سنة 656هـ استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وبذلك سقط الكيان الذي جمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر، وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم، وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 ملايين، قتلوا ثلث السكان وكانت أكبر مدينة في العالم، وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعد إلا في القرن العشرين؛ لأن بغداد أصبحت مدينة لا وزن لها، إذ إن معظم السكان ماتوا ومعظم عمالقة الشعب ماتوا، العلماء الفقهاء الحكام الأمراء الوزراء المفكرون، كل من له رأي أو قول في بغداد قُتل في البداية، إضافةً إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دمر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة؛ ليختفي بذلك كم هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط، لكن في كل مجالات الحياة علوم فقه وتفسير وأخلاق وعقيدة، إضافة لعلوم الطب والفلك والهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وكل علوم الحياة.

قطز.. وبناء الأمة

لم يتخيل أحد أن مصر ممكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن قطز -رحمه الله- بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة، وكل التأهيل والوقت كان عشرة أشهر فيها وجه الشعب إسلامي واضح.. جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول، يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله عز وجل، وكل القتال الذي سبق وسقوط المسلمين كان لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دنياهم ولا يدافعون عن دينهم، حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين، وقطز -رحمه الله- بدأ يعيد الناس مرة أخرى إلى الله سبحانه وتعالى، وكان كل هدفه قتال وهؤلاء الذين احتلوا نصف العالم تقريبًا في سنوات معدودات، ويستكملون النصف الآخر إذا ما سقطت مصر؛ لأن مصر بوابة إفريقيا.

وقطز بدأ ينمي فيهم الروح والحمية وحرك في الناس روح الإيمان، وكان للعلماء دور مهم في مصر.. وأعطى للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا جدًّا، وكان على رأس العلماء العز بن عبد السلام سلطان العلماء الذي كان يحب قطز حبًّا شديدًا جدًّا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز.. وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب، وبدءوا يرفعون قيمة الجهاد في سبيل الله، الكل يسعى للجهاد والشهادة.

وبعد هذا، قام قطز بشيء مهم جدًّا، ألا وهو القدوة، لم يجلس قطز في قصره الأمن يحرك الجيوش وهو بمعزل عن الخطر، لكنه فعل مثلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، كل شيء بيده قبل يد الصحابة.. هكذا فعل قطز أول ما صعد لكرسي الحكم قال: لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار. وقال كلمة جميلة: أنا ألقى التتار بنفسي. وكان قطز أول من يسمع لكلام العلماء؛ لذا وافق العز بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال ويرد الوزراء والأمراء الأموال التي أخذوها من بيت مال المسلمين، وعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: أنا أول من يفعل ذلك. ولم يُبقِ في بيته شيئًا إلا الفرس والسلاح.

لم يكن قطز لديه مطمع في حكم وسلطان.. شاب صغير لم يبلغ من العمر 35 عامًا على درجة عالية من الفقه والعلم والدراية، ولم يفكر في شيء من متاع الدنيا، ولم يطلب سوى الآخرة بوضوح.. بعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية؛ لأنه بدأ يوحِّد الصف مع المسلمين الذين كانوا على خلاف شديد معه قبل ذلك.. نسي كل ذلك، ووضع يده في يد المماليك البحرية التي تتبع نجم الدين أيوب، والتي كان على رأسها الظاهر بيبرس، وكان هو على رأس المماليك المعزية التي تتبع عز الدين أيبك، وكان بينهم خلاف وصراع شديد.. نسي كل الخلافات، وأصدر عفوًّا حقيقيًّا عن المماليك البحرية، وطلب منهم تكوين جيش واحد لمحاربة التتار، ووضع على رأس الجيش المصري (فارس الدين أقطاي الصغير)، وهو غير أقطاي الذي قتله مجموعة من المماليك المعزية، وليس قطز كما يدَّعون. وللعلم والتاريخ فإن بيبرس أيضًا لم يقتل قطز، وغير ذلك تزوير في التاريخ، ومحاولات لتشويه الرموز الإسلامية الكبرى.

المهم أن قطز بعد ذلك وحَّد مصر مع الشام، رغم أنهم كلهم كانوا خونة وعملاء؛ الناصر يوسف الأيوبي حاكم دمشق كان يوالي الصليبيين مرة والتتار مرة أخرى، ورغم هذا طلب منه وحدة الأمة تحت رئاسته، رغم أن قطز كان في موقف قوة، وأرسل له كلمات جميلة جدًّا "إن اخترتني خدمتك"، وهذا تجرد ورقي في الأخلاق.. وأرسل قطز للمغيث فتح الدين عمر أمير الكرك -في الأردن الآن- وللأشرف الأيوبي أمير حمص الموالي للتتار، ولأمير حماة، ولأمير بانياس.. أرسل لأكثر من منطقة من مناطق الشام لتوحيد الصف، منهم من رفض ومنهم من جاء.. المهم أنه في النهاية كوَّن جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين، وأهل فلسطين بعد ذلك انضموا للجيش بعد خروج الجيش لحرب التتار، واختار مكان الموقعة في فلسطين، مع أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز -رحمه الله- حوَّل الأمر إلى قضية إسلامية، إضافةً إلى البعد الأمني القومي لمصر من الناحية الشرقية.

ولا يمكن لمصر أن تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين وتبقى هي في أمان، بالتأكيد أمانها يكون مهددًا، وهذا مثل الوضع الذي نعيشه الآن.. وقصة التتار شديدة التشابه مع واقعنا المعاصر؛ لذا دراستها بنوع من التركيز أمر في غاية الأهمية.. المهم وحد قطز الجيوش وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت، ورتب جيوشه ترتيبًا محكمًا، وأعد العُدَّة بشكل في منتهى الروعة عسكريًّا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة، وسبق لمكان المعركة قبل جيش التتار، وبالفعل التقى مع جيش التتار يوم 25 رمضان سنة 658هـ في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية.
 
خداع وثبات وانتصار

قطز -رحمه الله- رتب الجيش في سهل عين جالوت الذي يشبه حدوة الحصان، مفتوح من الشمال والشرق والغرب والجنوب كله تلال، واستغل هذا الوضع الجغرافي المميز للمكان، وأخفى جيوشه كلها خلف التلال، ووضع المقدمة عند الشمال حتى تغري التتار بالدخول معها في موقعة، وعليها أن تثبت أمام التتار فترة طويلة من الزمن، ثم تسحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ثم تنزل الجيوش الإسلامية ككمين وخدعة.. تلك المقدمة كانت بقيادة ركن الدين بيبرس، وتمثل أقوى قطاع في الجيش الإسلامي، معظم المقاتلين فيها من أمهر عساكر وجنود المسلمين.

وفعلاً بعد شروق شمس يوم الجمعة 25 رمضان دخل جيش التتار من بعيد.. شاهد الجيش الإسلامي مقدمات الجيش بسيطة جدًّا، بدأ يقترب، وهنا بدأ قطز يعطي أوامر بنزول المقدمة كلها، ونزلت المقدمة بشكل عجيب جدًّا، يرويها أحد الرواد اسمه (صارم الدين أيبك)، وهو مسلم في جيش التتار يحب المسلمين ويظهر للمسلمين التعاون مع التتار ويرسل رسائل للمسلمين تدل على أخبار التتار.. وصارم هذا أسره التتار، وأظهر لهم التعاون معهم والتتار صدقوه، وقبل المعركة بليلة أرسل رسالة تدل المسلمين على مواضع القوة والضعف في جيش التتار دون سابق معرفة للمسلمين به.. وقطز -رحمه الله- كان ينزل الجيش عن طريق الموسيقى، وكان عنده فرقة عسكرية مملوكية على أعلى مستوى، وكل تحرك للجيش له ضربات موسيقية محددة، هناك ضربات للميمنة والميسرة وللتقدم والانسحاب، كان يدير الجيش من الخلف عن طريق الموسيقى.. وبدأ يضرب الضربات لنزول المقدمة لإغراء كتبغ قائد جيش التتار للهجوم والحرب..

ونزول المقدمة كان له شكل مميز، صوَّره لنا صارم الدين أيبك المسلم في جيش التتار الذي يقف إلى جوار (كتبغ نوين) زعيم التتار، أول ما ضربت الموسيقى نزلت أول فرقة في المقدمة ترتدي لباسًا أحمر في أبيض، وكما يقول صارم أيبك في غاية الأناقة ويرتدون العُدد المليحة، ومعهم أحصنة في منتهى القوة، وكأنهم في عرض عسكري.. وأول ما نزلوا بهذا الشكل كما يقول صارم أيبك بهت كتبغ، وبهت من معه من التتار، ثم قال: يا صارم، رمق من هذا؟ قال له: هذا رمق سنقر الحلبي، هذه فرقة شامية بداخل الجيش المملوكي. بعدها نزلت فرقة ترتدي أصفر في أصفر، وسأل كتبغ رمق من هذا؟ قال له صارم: رمق جلبان الرشيدي أحد أمراء المماليك. وتتابعت الفرقة كل فرقة بلون شكل، ويسأل كتبغ وما رمق هذا ويقول صارم: فصرت أقول له أي اسم يأتي على ذهني؛ لكي يرعبه.

وفي النهاية كلها مجموعة قليلة، لكن ألقى الله عز وجل الرعب في قلب كتبغ من هذه المجموعة القليلة، وعندما اكتمل نزول المقدمة وقفت في السهل تنتظر القتال، فوجدهم كتبغ مجموعة قليلة وجيشه وراءه ضخم هائل، فأسرع لقتال المسلمين وثبت المسلمون لا يتحركون، وتردد التتار في الهجوم، وهنا أمر قطز المقدمة بالهجوم على جيش التتار، ودارت الموقعة من شروق الشمس إلى الظهيرة بالمقدمة فقط، والغرض إرهاق التتار لأكبر درجة ممكنة والثبات في مقدمة سهل عين جالوت عند الفتحة الشمالية.

بعد منتصف النهار، بدأ جيش التتار يتعب وجيش المسلمين يتعب، وهنا قطز يراقب الموقف عن بُعد، وأمر الموسيقى تدق دقات لبداية الجزء الثاني من الخطة الإسلامية، وهي عبارة عن سحب جيش التتار داخل سهل عين جالوت، وهذا يحتاج من بيبرس وجيش المقدمة إلى تقاتل قتال المنهزم، ولكن بشكل متوازن حتى لا يشعر كتبغ بدخوله لسهل عين جالوت.. وبدأ بيبرس في تنفيذ الخطة وبدأ ينسحب، وانخدع جيش التتار وسار خلفه.. ثم ارتكب كتبغ نوين خطأ فادحًا أشبه ما يكون بخطأ أبي جهل عندما دفع الكفار لحرب المسلمين، وهو أنه دفع بجيشه كله داخل السهل دون أن يترك أي حماية خارجه؛ طمعًا في إنهاء الموقعة في أسرع وقت.

وفعلاً سحب بيبرس جيش التتار كله داخل السهل، وهنا أعطى قطز الأوامر بالجزء الثالث من الخطة، وهي إغلاق فتحة السهل الشمالي لقطع خط الرجعة على التتار، ونزول باقي الجيش لأرض المعركة، وتحيط بالتتار من كل جانب.. وجيش التتار أكبر من جيش المسلمين، وكادت الميسرة تسقط ولم يجد قطز إلا حلاًّ واحدًا، وهو أن ينزل بنفسه إلى ميسرة المسلمين لمواجهة ميمنة التتار القوية، وصاح صيحته المشهورة "واإسلاماه.. واإسلاماه" ثم نزل في وسط الجيوش، فوجئ الجيش بأن القائد الأعلى للجيش ولمصر كلها وسط المعركة بسيفه ودرعه، وأعطى حماسة شديدة للجنود، وبعد لحظات من نزول قطز للمعركة أصيب فرسه بسهم وقاتل ماشيًا، وجاءه أحد القواد بفرسه فقال له: "ما كنت أحرم المسلمين نفعك"! وقاتل ماشيًا إلى أن أحضروا له فرسًا من الاحتياطي، ولامه أحد الأمراء الآخرين على هذا، وقال له: لماذا لم تأخذ الفرس؟ لو قُتلت لهلك الإسلام بسببك. فقال له قطز: أما أنا لو قتلت لكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فيقيم الله له من يحفظه إلى يوم الدين.

وأثناء المعركة استطاع جمال الدين أعكوش الشمسي أحد أمراء الشام الذين انضموا إلى المسلمين، الوصول إلى كتبغ نوين وقتله، وبسقوط رأس كتبغ نوين انهارت معنويات التتار تمامًا، وبدءوا يفرون من أرض المعركة، واستطاعوا بالفعل فتح جزء من الفتحة الشمالية وهرب منها التتار في اتجاه بيسان على بعد 20 كيلو مترًا شمال شرق عين جالوت، ولم يتركهم المسلمون. وفي بيسان تمت موقعة أخرى في نفس اليوم، وكان القتال هناك أعنف وأشد من عين جالوت في الصباح، وأقصى طاقات التتار خرجت في هذه الموقعة، وكادت الغلبة تكون للتتار، وصاح قطز من جديد الصيحة الخالدة: (واإسلاماه) ثلاث مرات، ثم رفع يده للسماء وقال: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار. وهو يقول: لست أنا الملك المظفر، لست حاكم مصر، ولا أنا السلطان، إنما أنا العبد، انصر عبدك قطز على التتار.

كان هذا الخشوع منه في الدعاء من قلبه بمنزلة الجبل الذي سقط على جيش التتار فأهلكه تمامًا، خارت قوى التتار بعد هذه الكلمات، واستطاع المسلمون أن يحيطوهم من كل جانب، وأهلكوهم تمامًا.

وبعد هذه الموقعة يكفي أن نذكر أن جيش التتار قُتل وفني كله، ولم يبق منه جندي واحد.. وانتهت أسطورة التتار في موقعة عين جالوت موقعة اليوم الواحد.. كل تلك القصة حدثت وقطز صعد إلى العرش في 24 ذي القعدة سنة 657هـ، والموقعة حدثت في 25 من رمضان سنة 658هـ، يعني كل القصة عشرة أشهر منذ صعوده إلى العرش إلى أن حقق النصر في عين جالوت.. شيء إعجاز بكل المقاييس، ولا نستطيع أن نقول إلا قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. وهذا النصر تحقق بالنيات الصالحة والصدق والعودة إلى الله U، فأيدهم بنصره، وهرب التتار، وأمنت هذه المنطقة، وبعد بيسان دخل دمشق فلم يجد فيها تتاريًّا واحدًا؛ فأهل دمشق عندما وصلتهم أنباء النصر قتلوا الحامية التتارية هناك، وكذلك أهل حلب، وبدأت الصحوة في كل مكان.

وبعد عين جالوت اختفى ذكر التتار من التاريخ في هذه المنطقة، وولدت دولة المماليك التي حملت راية الإسلام قرابة ثلاثة قرون متصلة، وهي التي خلصت المسلمين -بعد التتار- من الصليبيين الذين كانوا موجودين في الشام وفلسطين.