.. من تراث المرشد العام محمد مهدي عاكف
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33).

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، سيدنا وزعيمنا وقائدنا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم- خير من دعا إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعد:

فإن العالم يعيش الآنَ وسط أجواءٍ مضطربةٍ وأمواجٍ عاليةٍ هادرةٍ؛ حيث كثرت المؤامرات والفتن، وتعددت صور الظلم والطغيان، وكشَّر الإنسان عن أنيابه لأخيه الإنسان، وبات الناس في قلق وحيرة، وسالت الدماء في كل مكان، وأُهدرت كرامة الإنسان الذي كرمه الله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70)، وتظالَم الناس وقد نهاهم الله عن ذلك "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا".

وتصارع الناس على المادة فطغى الأغنياء على الفقراء، وأصبح المال دُولَةً بين الأغنياء، واعتدى الأقوياءُ على الضعفاء، وغزت ثقافة القوَّة واجتاحت عقول الجهلاء؛ فغلفت الأرض سحابةٌ قاتمةٌ مقلقةٌ ولفَّها ضبابٌ كريهٌ، وحملت وتحمَّلت الصهيونية والإدارة الأمريكية أكبرَ قدر من المسئولية حيال هذه الحالة الغريبة على دنيا الناس، فالصهيونية بعنصريتها وكرهها للإنسان- عموم الإنسان- والأمريكية بغرورها وانقيادها لحركة الصهاينة تعاوَنا على الإثم والعدوان، وخلال قرنٍ من الزمان نشبت بسبب ذلك حروبٌ عالميةٌ وصراعاتٌ إقليميةٌ وقوميةٌ، ونشأت في مواجهة ذلك حركاتٌ للمقاومة والتحرُّر، وكانت جولةٌ خسِر فيها الكلُّ بشرًا ومالاً وعِرضًا وكرامةً وإنسانيةً وحضارةً، والتقط الناس بعض الأنفاس وتهيَّأت للبعض فرص للتنمية، وظنَّ العالم أن الصراع ينحسر، وأنََّ الحوارَ والخيرَ يتصل؛ ولكن الصهاينة وحصان (طروادة) الأمريكي بدَءَا حلقةً جديدةً من تأجيج الصراع على النحو الذي نراه الآن.

وفي ظل ذلك ظهرت حكوماتٌ وحكامٌ لدول كثيرة تظلم شعوبَها، وتلهبُ ظهورها بسياط القهر والفقر والتخلف، ولم يستقر الحال لهؤلاء الحكام ولا لتلك الحكومات؛ بسبب ظلمها فلم تهنأْ ولم تستقر، وأذاقت شعوبها الهوان وخلفت فيها القلق والاضطراب، فلا هي سعدت ولا هي أسعدت شعوبها: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41)؛ فكيف السبيل إذًا للخروج من هذا المأزق؟

الاستقرار مطلب الشعوب وحاجة الحكام
والشعوب تتوق إلى التخلص من هذه الحالة من التعب والقرح والعنت والمعاناة، وبطبيعة الحال تسعى- من خلال بعض رجالها وقادتها وأولي النُّهَى فيها- نحو هذه الحالة المستقرَّة الهادئة التي تنعم فيها بالخير والعدل والراحة والطمأنينة، ولا شك أن سبيل الشعوب في ذلك هو مقاومة الظلم والطغيان.

والحكام والحكومات أيضًا يتمنَّون لو استقرَّ بهم الحال وارتاح البال، ولكن هل يحدث ذلك من غير همَّة وعزيمة واستعدادٍ للتضحية ولو ببعض السلطات والصلاحيات إن لزم الأمر؟! فهل يفعلون ذلك؟!

عوامل الاستقرار ووسائل السلام
لا يتصور عاقل أبدًا أن يتحقق الاستقرار والسلام في العالم، وأن تُحقَن الدماء وتُحفَظ الأعراضُ ويأمن الناس على أرواحهم وعلى ممتلكاتهم وعلى عقائدهم في ظل هذا الظلم وهذه الممارسات.. إن الذين يزعمون أنهم يبحثون عن السلام والاستقرار نحب أن نلفت أنظارهم إلى ما يلي:

1- أن السلام الذي يُبنى على الظلم والطغيان لا يؤدي أبدًا إلى الاستقرار، وأنَّ دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن العدل أساس الملك.
2- أن الشعوب لا تُغلَب حين تصر على استرداد حقوقها، وأن مقاومتها للمستعمر والظالم لابد وأن تنتصر.
3- أن الظالم يدفع ثمن ظلمه وطغيانه مهما طال أمد الصراع وامتدَّ، ودروس التاريخ كثيرة ومعروفة، فأين "نابليون"؟! وأين بريطانيا التي كانت لا تغرب عنها الشمس؟!
4- اعلموا يا سادة أن للكونِ إلهًا قادرًا قاهرًا فوق الجميع، فلا تغتروا بقوتكم؛ فالله أقوى وأعزُّ، ولا تتمادَوا في طغيانكم وعدوانكم؛ فالله مولى الذين آمنوا وأنتم لا مولى لكم.
5- لقد جرَّبتم العدوان والظلم فماذا جنَيتم من ورائه؟ هل استقرَّ الأمر لكم؟ هل نِمتُم ملءَ الجفون واستشعرتم الطمأنينة وراحة الضمير؟ أفيقوا من غفوتكم، وانتبهوا من سكرتكم، وتعلَّموا من التاريخ إن كنتم لا تقدِّرون الواقع.
6- ندعوكم إلى ﴿كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ (آل عمران: من الآية64)، وألا يظلم بعضنا بعضًا، فلا تجوروا ولا تطغَوا، وثوبوا إلى رشدكم، وارجعوا عن غيِّكم؟ وستجدون الله غفورًا رحيمًا.
7- نحن نحب الخير- طبقًا لعقيدتنا- للناس كافة، ونتمنَّى لهم الأمان ونحرِص على أن يعيش العالم في سلام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال:61)، وربُّنا- جل وعلا- يأمرنا ألا نظلم أحدًا أيًّا كانت عقيدته أو جنسه أو لونه: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8)؛ فهلاَّ مددتم أيديَكم وجرَّبتم بِرَّ المسلمين وقِسطهم؟ ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

وإلى حكام العرب والمسلمين
إن الدرس واضحٌ، والحال بيِّنٌ، والتاريخُ يكرر نفسه، والعاقلُ من يتَّعِظُ بغيره، فمدُّوا أيديَكم إلى شعوبكم بالعدل وبالقسط وبالإحسان، واقدروا الأمر قدره، وأمامكم الآن فرصةٌ، فإن ضيعتموها فلا تلوموا بعد ذلك أحدًا، ولوموا أنفسكم يوم لا ينفع اللوم ولا يجدي الندم.

وإلى الشعوب العربية والإسلامية
العدو أمامكم ووراءكم، وليس ثمةَ إلا الله والجنة أو الشيطان والنار.. اعلموا يا قومنا- وكلكم قومنا- أن قوتَنا وعزتَنا في وحدتِنا، وسعادتُنا ونجاتُنا في عقيدتنا: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).. إن عدوَّكم منفوشٌ بالباطل وغرورِ القوَّة، ولكنَّه لا يملك عوامل الاستمرار والاستقرار، وسيضعُف لا محالةَ إن استمر في غيِّه وظلمه وعدوانه؛ فدوام الحال من المحال.. فاستمسكوا بما في أيديكم من حق، واتَّحِدوا وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، والأيام دُوَلٌ، والله معكم وسينصركم إن أنتم نصرتموه، فعضُّوا على عقيدتكم بالنواجز، واستبشروا، ولا تيأسوا، ولا تستسلموا لظالم، ولا تخافوا من أحد من البشر، وقاطعوا الصهاينة والأمريكان، وأعلِنوا رفضَكُم لمخططاتهم ومبادراتهم، وترقَّبوا الفرجَ بعد أن تؤدوا ما عليكم.

وكلمة إلى المجاهدين في كل مكان
أما أنتم أيها المجاهدون الكرام، يا مَن تسعَون للدفاع عن أوطانكم وتحريرها أينما كنتم- وخاصةً في [فلسطين] - فلقد رأى العالم كله مواقفَكُم الصلبة، واطمأنَّ إلى عدالة قضيتكم حتى وإن أظهر بعضُ الحكومات الخائفة غيرَ ذلك، فبُشراكم بُشراكم إحدى الحسنَيين.. النصر أو الشهادة.. لقد أحيا الله بكم مَواتَ الأمة، وأيقظ الله بجهادكم قلوبًا كاد الران أن يقضي عليها، الله معكم، ونحن إخوانكم، نقف وإياكم في خندقٍ واحدٍ ضدَّ هذه الهجمة الشرسة علينا جميعًا، وسوف يكون جهادكم وثباتكم وتضحياتكم سببًا- إن شاء الله- لعودة الحقوق إلى أصحابها وإلى استقرارٍ تاقَتْ إليه المنطقة وافتقدته منذ أكثر من قرن من الزمان، والله معكم ولن يتِرَكُم أعمالكم.

ولـ (الإخوان) أيضًا لنا وصية
أيها (الإخوان المسلمون) في كل مكان، اعلموا أن الإسلام دين العدل والسماحة والوسطية، وهذه أهم دعائم الاستقرار؛ فلا تفريط ولا إفراط، وإنما دعوةٌ بالحكمة والموعظة الحسنة، وما حدث في (مدريد)- منذ أيام- نرفضه وندينه، كما رفضنا وأدنَّا قبله ما حدث في الرياض وفي الدار البيضاء وفي غيرها.

أيها (الإخوان)، إن أمتنا اليوم في حاجة إلينا جميعًا، وإسلامنا يحتاج إلى التضحية في سبيله، وأنتم- بفضل الله- أهل لذلك؛ فلا غفلةَ، ولا تكاسلَ، ولا تراجعَ، ولا تركَ، ولا تقصيرَ؛ وإنما جهاد متواصل، وعمل دائم، وانتشار بالحق بين الناس، فأنتم كما قال إمامنا الشهيد "حسن البنا" روح جديد يسري في هذه الأمة فيُحييها بالقرآن، ولا تقلقوا مما ترَون على الساحة من استكبار الباطل وجبروت الظالمين، فإن ذلك كلَّه كبيت العنكبوت فما أوهنه!! لا تقنطوا من رَوح الله، واعلموا أن النصرَ مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا؛ فهلاَّ أدَّيتم ما عليكم، فسعِدتُّم بذلك، وأسعدتُّم أمتَكم وأرضَيتُم ربَّكم؟!

فالثباتَ الثباتَ؛ كالشُّمِّ الراسيات، وإن للمحن رجالاً، وأنتم- إن شاء الله- الرجال: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب: 22)، ولا تنزعجوا من هؤلاء الذين يمدون أيديَهم بالسؤال إلى عدوِّكم وبالسوء لكم؛ فهم إلى زوال.. واعلموا أن الله مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير.

﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية21)